حدث عندما كنت وزيرا

TT

رأيت فيما يرى النائم أنني عينت وزيرا. لم أصدق الخبر عندما أبلغتني به قيادة سياسية كبيرة، لا بد أنه مقلب جديد من أحد أصدقائي الظرفاء إذ لم يحدث في تاريخ مصر أن عين كاتب مسرحي وزيرا. غير أن محدثي طلب مني أن أنظر من نافذة شقتي إلى الشارع لأجد أنه توجد في انتظاري سيارة خاصة سوداء كبيرة وسيارة حراسة وموتوسيكل يقوده أمين شرطة. شكرته بشدة وحلفت اليمين في صباح اليوم التالي. كانت وزارة جديدة أطلق عليها اسم طويل نسيته مع الأيام مكتفيا بالاسم الذي أطلقه عليها زملائي وهو وزارة (أبو علوة) بينما أطلقت عليه الصحافة المنفلتة اسم غريب وبعيد عن الحقيقة هو (الوزارة اللي ما حدش عارف هي وزارة إيه) الواقع أنني حتى الآن، أي بعد خروجي من الوزارة لا أعرف لماذا قاموا بتعييني ولماذا أخرجوني، ربما الوحيد الذي يعرف ذلك هو الأستاذ هيكل ولا شك أنه سيتناوله يوما ما على الفضائيات من خلال وثائقه التي لا شك فيها.

ربما جاء تعييني بضغط من أميركا نظرا لدفاعي عن السلام المصري – الإسرائيلي، ولذلك كنت حريصا عند مقابلتي للصحافة وأجهزة الإعلام على أن أوضح أن السلام المصري - الإسرائيلي ليس أكثر من هدنة وأن الحرب بيننا وبينهم آتية لا ريب فيها، وأن إسرائيل هي العدو الوحيد لمصر هي وأميركا وأنني لست ضد التطبيع بشرط أن يعود اللاجئون الفلسطينيون إلى الأماكن التي طردوا منها، وعودة القدس عاصمة لدولة فلسطين وانسحاب إسرائيل من الجولان وجنوب لبنان وأي أرض عربية أخرى.. عندها قد أفكر في التطبيع.

وزارتي كبيرة وميزانيتها هائلة نظرا لأنها مسؤولة عن إقامة مشاريع كبيرة تقدر ميزانيتها بالمليارات. غير أنني أخذت عهدا على نفسي لحظة دخولي مكتبي ألا أتربح من منصبي بأي شكل من الأشكال. بوجه عام من الصعب أن يتحول الإنسان إلى حرامي بعد سن السبعين، غير أن لكل قاعدة استثناء كما تعرف. لا أحد من أصدقائي الأوغاد جاء لتهنئتي بالمنصب، وهذا يدلك على مدى ما تحدثه الغيرة في نفوس البشر. من الغريب أن عددا كبيرا من رجال الأعمال كانوا هم أول من جاء لتهنئتي بالمنصب واتضح أنهم جميعا من عشاق المسرح وأعلن بعضهم أنه بسبيله لإقامة عدد من المسارح في القاهرة والإسكندرية ودمياط وبعض الأقاليم الأخرى وأنه قد بدأ في تنفيذ مشروعه قبل أن أصبح وزيرا. زارني رئيس نقابة المهن التمثيلية وقال لي: جئت أعتذر عن خطأ سخيف ارتكبته النقابة في حقك منذ سنوات طويلة وذلك عندما فصلتك بسبب حكاية التطبيع.. يعلم الله كم دافعت عنك أيامها، وكم قلت لهم أيامها: يا جماعة والله الراجل ضد التطبيع وضد السلام وضد إسرائيل وضد أميركا ومع الحرب إلى الأبد. ولكن لا أحد صدقني غير أن تصريحك الأخير برأك من هذه التهمة وأعاد الأمور إلى نصابها.. نحن نعرف أن وقتك ثمين وليس لديك وقت تضيعه في كتابة طلب لإعادة قيدك في النقابة، لذلك كتبنا لك الطلب ووافق عليه مجلس الإدارة وتمت إعادة قيد سعادتك وآدي الكرنيه أهو.

أما رئيس اتحاد الكتاب فقد قال لي: لقد فصلناك من قبل وعدت بحكم قضائي غير أنك تقدمت باستقالة.. ما رأيك في أن هذه الاستقالة لم تصلنا، ولقد سألت عنها كل أعضاء مجلس الإدارة وكل المثقفين غير أنهم جميعا قالوا إنهم لا يعرفون عن هذا الموضوع شيئا.. لقد حدث تغير جذري في الموقف بعد تصريحاتك الجريئة ضد إسرائيل وضد أميركا وضد السلام.. وأنا هنا لأبلغك أنك ما زلت عضوا في الاتحاد وأن معاشك الذي توقف طوال السنوات الماضية تم صرفه.. وهذا هو الشيك. قبلت منه الشيك شاكرا ووعدته بندوة أكون المتكلم الرئيسي فيها لأشرح لزملائي الكتاب خطورة السلام مع إسرائيل على مصر وعلى فلسطين وعلى البلاد العربية وعلى العالم كله.

المسؤول عن النشر في دار كبيرة تابعة للقطاع العام زارني وقال لي: فين كتبك يا راجل؟ أنا أعرف بالطبع أنك نشرت عندنا حوالي عشرة كتب، وأن موظفي الحسابات الأوغاد لم يصرفوا لك النسبة المقررة لك على الغلاف لسنوات طويلة.. غير أن ذلك حدث في عهد المسؤول السابق، أما أنا فقد عنفتهم بشدة وطلبت منهم إعداد كشف باستحقاقاتك جميعها فسهروا أربعة ليال إلى أن تمكنوا من حصر مستحقاتك.. اتفضل الشيك أهو.

أخرجت هيئة الكتاب من مخازنها كتبي القديمة ووزعتها على كل منافذ البيع فيها من إسكندرية إلى أسوان، بل إن البعض طالب بإنشاء منافذ جديدة في حلايب وشلاتين على حدود مصر الجنوبية. هناك ملخصات كثيرة لأعمال درامية سبق أن قدمتها لشركات عديدة لم تعتن حتى بالرد عليّ أرسلت مندوبين عنها لإعادة إحياء تلك الأعمال التي تسبب في تعطيلها لسنوات طويلة موظفون لا يقدرون الأعمال الدرامية العظيمة.. خمس شركات طلبت منى ملخصات لأفلام تتناول الصراع العربي - الإسرائيلي من وجهة نظري الجديدة التي أعلنتها، وكان أهم عرض هو ذلك الذي تقدم به رجل الأعمال (أ. ح) الذي طلب منى كتابة سيناريو وحوار فيلم جديد قدم لي ملخصه (حا نطلع روح أمك يا أميركا - اسم مؤقت) وفيه يخطف البطل الرئيس أوباما من البيت الأبيض ويطلب من الكونغرس أن يدهنوا البيت الأبيض باللون الأزرق كشرط للإفراج عنه.

اعتذرت له لضيق الوقت. كل فرق الثقافة الجماهيرية المسرحية قررت تقديم مسرحياتي التي كتبتها قبل مرحلة الوزارة، ذكرني ذلك بمرحلة الستينات التي كنت فيها مجرد كاتب مسرحي فقط. اتصل بي رئيس هيئة المسرح وأبلغني أن مسرحيتي التي تقدمت بها إلى المسرح القومي منذ عشرة أعوام، انتهت لجنة القراءة من قراءتها ووافقت عليها وأنه سيفتتح بها الموسم. أما الأمر الوحيد الجديد والجميل في حياتي كوزير فهو المعرض، نماذج جميلة منحوتة ومرسومة من كل أعمالي المسرحية التي تم عرضها، فالمسرح كما تعرف هو أبو الفنون، والفنون التشكيلية كما تعرف من الفنون الجميلة.. وبعد إذنك نرجو السماح لنا ببيع هذه النماذج.

صاحب الاقتراح همس في أذني في صدق: ده رزق باعته ربنا.. حا تقف ضد إرادة الله؟ يا راجل خد حقك عن كل أعمالك العظيمة اللي اتباعت بملاليم.

بيعت كل التماثيل واللوحات ليلة افتتاح المعرض، لم أكن أعرف أن مصر فيها كل هذا العدد الكبير من رجال الأعمال الذين يعتزون بأعمالي المسرحية. كنت حريصا على عدم بيع أي عمل لرجال الأعمال الذين يتعاملون مع وزارتي لكي أمنع القيل والقال، غير أنه اتضح لي فيما بعد أنهم كانوا يرسلون أشخاصا آخرين لا يعرفهم أحد لشراء هذه الأعمال.

لقد جربت من قبل آلام الفقراء، غير أنني أؤكد لك أنها أقل بكثير من آلام كثرة الفلوس التي بدأت تنهال عليّ وكأنها أمطار المنطقة الاستوائية، أما العذاب الحقيقي فكان ذلك السؤال الهامس الخبيث الذي كان يهاجمني ليل نهار: هل كل هذا المجد والفلوس لأنني فنان.. أم لأنني وزير؟

الحمد لله.. لقد تركت الوزارة، غير أنني مصاب الآن بنوع جديد من العذاب، هل ستكتب الجرائد عني يوما ما هذا النوع من العناوين المفزعة.. حقيقة الانحرافات في وزارة أبو علوة.. بالأدلة والوثائق.