نعم و لا

TT

وردني بالايميل «قاموس الجنس العربي». نحن نعرف أن العرب أعطت الجمل ما تجاوز المائة اسم. ولكن يظهر أنهم أعطوا أكثر من ذلك للجنس والحب. وفي هذه الأيام ربما نجد أن الرشوة تجاوزت كل ذلك. هناك الرشوة والبرطيل والبخشيش والهدية والصوغة والعمولة والكومشن والدفتر وحصة القاضي وحق العشا والبيني وبينك وجوة العباية... الخ.

خطر لي أن اسأل صديقا يهوديا. ما هي أكثر كلمة مترددة في تراثكم؟ كنت أتصور انه سيجيبني فيقول «الفلوس». ولكنني كنت واهما، إذ فكر الرجل قليلا ثم قال «كلمة «لا». فبها تبدأ كل وصية من الوصايا العشر: لا تكذب لا تقتل لا تسرق... الخ. و فيما بعد، تناول الموضوع فقهاء التلموذ فوضعوا أوامر تقوم على النهي، لا تفعل كذا. وصلت هذه النواهي 613 أمرا. وكلها تتضمن «لا».

و قد تفننوا في أداة النفي هذه، فوردت بشأنها شتى الطرائف. وكان منها ما اقتبسه برتولد برخت. مسك احد الدوقات المستبدين بيهودي وقال له: تخدمني أم لا؟ سكت ولم يجب عليه. فراح الدوق يسخره واليهودي يفعل ما يأمر به. أخيرا مات الدوق من الشرب والأكل والجنس والبطش بالناس. ذهب اليهودي ليزور قبره. وقف عليه. ركله برجله ثم قال: «لا».

والحديث يجر لحديث، فتذكرت ما قاله الاسكندر المقدوني عندما قاد جيوشه وفتح الشرق حتى أفغانستان التي وضعت حدا لتقدمه، فعاد من حيث أتى. وهو ما سيحصل للرئيس اوباما كما أتصور. جلس الاسكندر في بابل ونظر حوله لسكان بلاد الرافدين ثم قال: إن سكان الشرق وقعوا في العبودية لأنهم لم يتعلموا أن ينطقوا بكلمة «لا».

وكما نعرف كان الاسكندر قد تتلمذ على يد الفيلسوف اليوناني الكبير أرسطو. فلا عجب أن يلاحظ ذلك في الشرق حالما ألقى نظرة سريعة على سكان العراق.

عدت إلى البيت وجلست أتأمل فيما سمعته من ذلك الصديق اليهودي. تذكرت مقالة كنت قد كتبتها قبل سنوات عن فلسطين والفلسطينيين أشرت فيها إلى كلمات الاسكندر المقدوني وقلت انه لم يقم في فلسطين ليرى كيف شغف الفلسطينيون بكلمة لا. فلو فعل لبادر إلى تغيير كلمته وقال: إن أهل هذه البلاد سيفقدون بلدهم ويقعون في العبودية لأنهم لم يتعلموا أن ينطقوا بكلمة «نعم».

أصبحت اللاءات الفلسطينية مشهورة ومشهودة في أيامنا هذه. قالوا لا للمجلس التشريعي الذي اقترحه الإنجليز في الثلاثينات. ثم قالوا لا لتقسيم فلسطين. ثم قالوا لا للصلح مع إسرائيل. ولا لمشروع الرئيس كلنتن. ولا للتطبيع ولا للاندماج بإسرائيل. ولا لنبذ العنف وتبني الجهاد المدني. ولا للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية. وما زالت اللاءات تتوالى.

عدت لأتذكر ثانية ما قاله صديقي اليهودي. «لا» هي ما تعتز به الشخصية اليهودية. برهان آخر على أن الفلسطينيين، وليس اليهود الاشكناز القادمون من الغرب، هم «بنو إسرائيل» الاقحاح.