على أوباما تقليص دعمه لـ«وول ستريت»

TT

إذا عقدنا مسابقة حول أسوأ وصف يمكن إطلاقه على سياسي في الفترة الراهنة، سيتمثل مقترحي في «ليبرالي إزاء (وول ستريت)». في اعتقادي، يحمل هذا الوصف كل الانتقادات التي يمكن تخيلها. ومع أنني شخصيا يساورني سخط بالغ حيال التشويه الذي تعرضت له فكرة الليبرالية النبيلة، فالحقيقة التي يتعين علينا مواجهتها هي أن المحافظين حققوا نجاحا كبيرا في تشويه صورة الليبرالية، لدرجة أن غالبية الليبراليين لم تعد لديهم الجرأة لأن ينعتوا أنفسهم بالوصف الحقيقي لهم.

ولنسأل: هل توجد مؤسسات تحيطها مشاعر ازدراء في الوقت الحالي أكثر من تلك التي يطلق عليها «وول ستريت»؟ لطالما أبدى اليسار كراهيته لـ«وول ستريت». وعمد الشعبويون من مختلف الأطياف إلى ملاحقة الرأسماليين منذ عهد أندرو جاكسون. في المقابل، بمقدور اليمين تصوير مسؤولي «وول ستريت» كمتلقيين لأموال واشنطن وثرواتها، وهم أيضا المبذرون الذين وجهوا ضربة قوية للاقتصاد الأميركي.

ليس عليك إلا أن تضع لفظ «وول ستريت» بجانب كلمة «ليبرالي»، ويندلع دوي انفجار!

وإذا رغبت في التعرف على سبب تراجع مكانة الرئيس أوباما في استطلاعات الرأي عما جرت العادة - وأيضا السبب وراء اكتساب الحركة المعروفة باسم «حزب الشاي» مثل هذا الزخم الكبير - فعليك أن تضع في اعتبارك أن قطاعا مهما من الناخبين الأميركيين بات ينظر إلى الإدارة باعتبارها ليبرالية ومرتبطة بـ«وول ستريت» على نحو مفرط.

ويأتي ذلك رغم أن أوباما في حقيقة الأمر ليس على هذه الدرجة الكبيرة من الليبرالية (وعليك قراءة آراء المدونين الليبراليين إذا ساورك شك بهذا القول)، ورغم قتال «وول ستريت» في مواجهة أوباما فيما يخص الإصلاح المالي، خاصة ما يتعلق باقتراحه الرائع باستحداث وكالة لحماية المستهلك المالي.

لذلك، جاء إعلانه، الخميس، عن فرض رسوم جديدة على المصارف الكبرى بهدف استعادة تكاليف أموال الإنقاذ المالي في توقيت مثالي. وينطبق القول ذاته على الفكرة التي يجري الترويج لها، داخل الكونغرس، حول توفير المال اللازم لخفض نسبة كبيرة من الضريبة على «خطط كاديلاك» الصحية عن طريق فرض ضريبة الرعاية الطبية (ميديكير)، ليس على الدخول من الأجور فحسب، بل على دخول الاستثمارات أيضا. والمؤكد أن تمويل مساعدات موجهة إلى الأميركيين العاديين عن طريق فرض ضرائب على «وول ستريت» يبدو أمرا منطقيا، وليس لأسباب سياسية فحسب.

أخيرا، يحاول أوباما تناول ما كان بمنزلة تشوه هائل في نقاشنا السياسي. الملاحظ أن الكثير من الأصوات داخل واشنطن تعلو بالتنديد بالعجز الشديد في الميزانية، وهو الأمر الذي يثير قلق الناخبين المستقلين أيضا. على المدى القصير، تبدو عجوزات الميزانية أمرا منطقيا بهدف تعزيز الاقتصاد. إلا أنه على المدى البعيد، تظهر الحاجة لتناولها.

ويصر البعض على المضي قدما في طرح الفكرة المستهلكة التي تدور عن إمكانية التخلص من العجوزات عبر تقليص «المستحقات» فقط، وقد وضعت اللفظ بين قوسين لأنني دوما ما يساورني الحذر حيال من يستخدمون هذه الكلمة، لاعتقادي أنهم يتعمدون بذلك تجنب الإعلان صراحة عن رغبتهم في تقليص الميزانيات المخصصة للرعاية الصحية والأمن الاجتماعي.

في الواقع، ترمي الصورة، التي جرى عليها تصميم إصلاح الرعاية الصحية في جزء منها، إلى احتواء النمو طويل الأمد لتكاليف الرعاية الصحية. أما المدخرات التي يمكن استخلاصها من وراء الأمن الاجتماعي فمحدودة. وفي نهاية الأمر تجد أنه إذا كنت تأبه حقا لإبداء شعور بالمسؤولية على الصعيد المالي، فلا مفر من تأييد زيادة الضرائب. لكن الضرائب مفروضة على من؟ الحقيقة أننا نعاين تحولا كبيرا على صعيد الدخول والثروات في الولايات المتحدة، ليس في مصلحة الأثرياء بوجه عام فحسب، بل في مصلحة القطاع المالي على وجه الخصوص أيضا. والملاحظ أننا حاليا نفرض ضرائب إضافية على الدخول من الرواتب والأجور مقارنة بالدخول من الاستثمارات، وينطبق القول ذاته على قطاعات التصنيع والخدمات مقارنة بالصناعة المالية.

وعليه، فإن نقل عبء الضرائب باتجاه القطاع المالي أمر يقتضيه العدل والضرورة السياسية. ويتمثل السبيل الأمثل للقيام بذلك أمام أوباما في خوض معركة أو اثنتين في مواجهة «وول ستريت» والمصارف الكبرى، سعيا لتحقيق توازن في الميزانية.

ومن شأن ذلك خلق تحد أمام حركة «حزب الشاي» وإجبارها على توضيح موقفها هل هي شعبوية، أم تستغل خطابا شعبويا فحسب لتطبيق نفس الأجندة القديمة القائمة على الضرائب المنخفضة والتنظيمات القليلة التي أوقعتنا في هذه الفوضى من الأساس.

والتساؤل الآن: هل ستخرج حشود «حزب الشاي» في مظاهرات ضد فرض ضرائب على المصارف والصناعة المالية باسم مبادئ الحركة الليبرالية؟ وإذا فعلوا ذلك، فكيف يكونون شعبويين؟

وبعد عام من اتخاذ العناصر التقدمية موقف الدفاع، حان الوقت كي يدعوا جبهة أخرى للتحدي.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»