أميركيا..لا تدعوا الناس يستحضرون مقولة صدام!

TT

في ذروة تصاعد العمليات على طول جبهة الحرب مع إيران، عندما قررت القيادة العراقية الانتقال من مرحلة امتصاص الهجمات الكبرى للقوات الإيرانية إلى مرحلة التحول الاستراتيجي لحسم الحرب، أصدر رئيس الجمهورية توجيها يقضي بإخفاء التحضيرات عن الأميركيين ضمن جهد المخادعة. وكانت الاستخبارات قد طلبت من الأميركيين توجيه الأقمار الاصطناعية لتغطية مكان محدد من الجبهة. وكالعادة، فإنها ملزمة بإبلاغ الرئاسة بجزئيات التنسيق يوما بيوم. فجاء تعليق الرئيس على الطلب بالنص (ما كان عليكم أن تقولوا لهم هذا.. الأميركيون متآمرون). ومثل هذا الموقف لا يمكن وصفه ببضعة سطور بعد اثنين وعشرين عاما. فالحرب مصيرية، والموضوع حساس، والشخص الذي يجري التعاطي معه هو صدام حسين.

ويؤكد هذا التوجيه أن العلاقة بين أميركا والنظام آنذاك لم تكن قائمة على قواعد الثقة والتطور الاستراتيجي، فمعظم العروض الأميركية بتقديم المساعدة في مجال تدريب الطيارين مثلا، قوبلت بحذر شديد من قبل صدام، غالبا ما وصل إلى مستوى الرفض، لأسباب تتعلق بعدم الثقة. وكانت حساسية الاستخبارات مفرطة، ومطلوبة، في إخفاء مصادر معلوماتها، وهي مصادر لا تنقصها إلا الأقمار الاصطناعية.

في تلك المرحلة لم يستطع الأميركيون محو إفرازات قضية (إيران غيت) من ذاكرة صدام. القضية التي دللت على استعداد الأميركيين لتغيير مواقفهم حيال أزمات كبرى، وتلقت إيران بموجبها مساعدات عسكرية بطريقة وأخرى. إلا أنهم بقوا حريصين على خيوط قوية مع بغداد كان مفترضا تطويرها عراقيا.

واليوم، يصعب مواجهة القناعة الشعبية العربية، وأحيانا الرسمية، بوجود مؤامرة أميركية إيرانية تستهدف الدول العربية. ولا أخفي عدم قناعتي بهذه الرؤية حتى الآن. بقدر ما أرجع ما يجري إلى قصور وعدم وضوح أميركي في معالجة الأزمات، وربما تردد ومعوقات في بعض الحالات، خصوصا بعد التجربة الأميركية المريرة في العراق وأفغانستان. مع وجود علامات مثيرة للشكوك أو الاستغراب في حدها الأدنى.

فكيف قبلت أميركا بوقوع العراق تحت هيمنة الخمينيين؟ وهل يعقل أن توافق على تسليم قيادة العراق لتنظيم خميني الهوى؟ وأقصد فريق المالكي المصغر من حزب الدعوة. ولماذا لم تتصرف القوات الأميركية بحزم تجاه التدخلات الإيرانية وبقيت لفترة طويلة تتحدث عن الدور التخريبي الإيراني باستحياء؟ وكيف قبلت بمبدأ تقسيم العراق إلى طوائف وملل متناحرة؟

عام 1995 التقيت مسؤولا مهما مكلفا من الـ «CIA»، وخلال تداول حديث عن الوضع العراقي والإقليمي، كشف عن قناعته بأن إيران تشكل تهديدا رئيسيا. ومع أن تغيير النظام كان حلما عراقيا آنذاك، فما الذي جعل الأميركيين يسمحون بتنامي القدرات الإيرانية إلى ما وصلت إليه من تحد سافر للأمن الدولي الآن؟ فيما كان ممكنا حرمان إيران من تحقيق أي مكاسب في العراق، إن لم يكن جعل عملية التغيير في العراق مصدر ضغط قوي على نظام المرشد.

لا يزال النظام في إيران يواصل تدخلاته الخارجية السافرة، خصوصا في البلاد العربية، والتحريض على حكوماتها، ودوره في أحداث اليمن والتجاوز على حدود المملكة العربية السعودية قدم صورة صارخة. ولولا صلابة القيادة اليمنية والدور الفعال لمركز الثقل العربي، لتحول اليمن إلى قاعدة ارتباك وتهديد كبيرين للمنطقة وأمن العالم. فهل على العرب انتظار جيب جديد وضربة أخرى في مكان آخر غير العراق ولبنان وفلسطين والمؤامرة على استقرار مصر، التي أجهضت قبل أن تبدأ بفضل وعي وقدرات أجهزة الأمن؟ لقد قطعت قوى المعارضة الشعبية الإيرانية شوطا كبيرا في تصديها لنظام الفقيه رغم القمع، إلا أن من الخطأ التعويل على مجابهة التهديد الرسمي الإيراني بأجساد المتظاهرين، فيما يبخل عليهم العالم بالدعم اللازم، وتلتزم بعض الدول بخدع وأكاذيب وتلفيق الخمينيين على العديد من قوى المعارضة.

أين هي العقوبات المطلوب فرضها على النظام القائم؟ ومن قال إن العقوبات أو (إجراءات محددة) ونشاطات أخرى، ستؤدي إلى التفاف جماهيري حول نظام المرشد؟ فإذا ما توافر هذا التحليل في ذهن المختصين والسياسيين فسيكون أفضل هدية (غيبية) لغلو وتهديدات نظام الفقيه. بينما تقوى سواعد الشعوب الإيرانية كلما تعاظمت الإجراءات العقابية على النظام. لكن حتى التلويح بالعقوبات الاقتصادية لم تثبت جديته!

ثم لماذا هذا السكوت المطبق تجاه عمليات تشذيب القوى الواقفة ضد تيار الخمينيين في العراق، فيما تتلقى الجهات الحكومية هناك دعما أميركيا غير مسبوق؟ ألا يعني ذلك انحيازا لصالح جهة على أخرى؟

صحيح أن أميركا لا تتحمل وحدها مسؤولية التصدي لتهديد الخمينيين، إلا أنها قادرة على إدارة الموقف بطريقة أخرى، وتعديل المعادلات على الساحتين العراقية والإيرانية بخطوات ثابتة واضحة، وإلا سيردد الناس مقولة (الأميركيون متآمرون)، فلا تدعوهم.