لماذا تركيا؟

TT

أعود مجددا لموضوع مهم جدا، وهو الدور الجديد والمؤثر لتركيا، ليس فقط على المستوى الإقليمي، ولكنه بات واضحا على المستوى العالمي أيضا. أولا لا بد من سرد بعض الحقائق والبيانات لتبيان الوضع التركي على حقيقته. تركيا يبلغ عدد سكانها 73 مليون نسمة تحديدا، بحسب آخر إحصاء معتمد، ويبلغ معدل دخل الفرد فيها عشرة آلاف دولار أميركي، ولكن بقوة شرائية فعلية تبلغ 13 ألف دولار. لديها اقتصاد متنوع يعتمد على الصناعة العالية الجودة لكونها تصدر إلى السوق الأوروبية بشكل أساسي، مع عدم إغفال أهميتها في الصناعات الثقيلة مثل الحديد والإسمنت والسيارات. لديها اليوم ثاني أهم قوة عسكرية (نعم ثاني أهم قوة عسكرية) في حلف الأطلسي بعد الولايات المتحدة الأميركية نفسها، لديها نظام ديمقراطي فعال وبرلمان نشيط وصحافة حرة مؤثرة وقضاء يتطور ومستويات مبشرة في قطاعات التعليم والصحة (أهم طبيب مشهور اليوم بالولايات المتحدة الأميركية هو فهمت أوز، وهو من أصل تركي)، إضافة إلى انتشار الكثير من الفنون التركية حول العالم. كتب الروائي التركي الحائز نوبل للآداب، أورهان باموك، تمت ترجمتها لعشرات اللغات وتحقق نسبة مبيعات قياسية، وكذلك القول بالنسبة للمطربين الأتراك والموسيقيين أمثال: تاركان وعمر فاروق تكبيلك. تركيا الحالية تبنت موقفا اقتصاديا مغايرا، فبدلا من تركيزها المضني على الانضمام للسوق الأوروبية (وهو ما يلقى معارضة هائلة من فرنسا وألمانيا تحديدا، وموافقة من بريطانيا) قررت أن تعزز موقعها الاقتصادي عالميا وليس قاريا، فالأزمة العالمية المالية الحالية عززت من موقع تركيا في مجموعة العشرين بشكل واضح كسوق ناشئة قوية وموقع صناعي متنام، وبالتدريج أصبح الاقتصاد التركي يقارن مع البرازيل وكوريا والمكسيك والصين وروسيا والهند.

ومعدلات النمو الاقتصادي في تركيا خير مؤيد على كل ذلك، واليوم تركيا تقوم بإبرام معاهدات واتفاقيات فعالة وفي غاية الأهمية مع أكثر من دولة عربية مثل العراق والأردن وسورية ولبنان، وهي تجاوزت بذكاء وحكمة المشكلات الخاصة التي كانت موجودة في العلاقات بينها وبين العراق، فيما يخص الملف الكردي المعقد، وكذلك بالنسبة لملف العلويين ومنطقة لواء إسكندورن مع سورية. كل هذه الاتفاقيات مع هذه الدول العربية مرشحة لأن يزداد نفوذها مع نية تركيا إنشاء منطقة اقتصادية حرة متكاملة تضمها مع هذه الدول العربية كلها ككتلة اقتصادية موحدة، وتشمل هذه الاتفاقيات حرية الحراك وذلك بإلغاء التأشيرات وحرية انتقال المال والإعفاء الضريبي وأسعار تشجيعية للطاقة وحوافز لأسعار النقل البري والجوي والبحري بين البلدان المشاركة. تركيا لها تجارب ناجحة مع جمهوريات آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي، والتي باتت هي رافدها الاقتصادي الأساسي، معتمدة في ذلك على الإرث الثقافي القديم الذي يربط هذه الدول بتركيا، حيث إن غالبية السكان يتحدرون من أصول تركية، وبالتالي لا يشعرون بالحرج ولا بالخوف من التعاون مع تركيا والانفتاح عليها بالمشاركة والاستثمار الكبير. المنطقة العربية لديها الآن مثالان للمقارنة بينهما في محيطها، وهما إيران وتركيا؛ فإيران دولة عقدت وأزمت من أوضاعها بالانقلاب على أصدقائها ومعاداتهم، والآن تنقلب على نفسها وتبدأ في معاداة ذاتها، وبالتالي هدر الموارد والنفوس على معارك واهية، والنموذج التركي ينضم للنموذج الماليزي ليقدم مثالا حيا وراقيا وجادا على العمل والعلم والسوية الاجتماعية ونفع الناس، وهو مثال، العالم الإسلامي، والعربي منه تحديدا، بأمس الحاجة لأن يراه ويتمعن فيه حتى يفرق بين الشعارات وبين النتائج الحقيقية.

[email protected]