السعودية.. ثورة ثقافية ولكن بدون عنف الثورة الصينية

TT

نحو أسبوع توزَّع بين ثلاث ليالٍ في جدة وليلة في المدينة وأربعة أيام في الرياض، وهو أسبوع كان كافيا لاستشراف اهتمامات السعوديين وهمومهم والقضايا التي تشغلهم وتؤرقهم، وتلمُّس ما يشكل مجالات لما يتفقون عليه وما يختلفون حوله، وجاء هذا محصلة لقاءات كثيرة على مستويات مختلفة ومشاركات في مجالس متعددة الاتجاهات، وحوارات مع بعض زمـلاء مهنة الكتابة والصحافة، التي هي حقا وبالفعل مهنة تقليع الأشواك والمتاعب.

قبل أقل من عام بقليل كنت أحد قلة من المدعوين للمشاركة مستمعا ومعلقا في أول سوق لـ«عكاظ» بعد غياب طويل، وحقيقة أن ما أذهلني وشكل مفاجأة لي لم أكن أتوقعها، هو اتساع هوامش الحرية حتى ملامسة الخطوط الحمراء، وهو أن الصورة السعودية من الداخل تختلف كثيرا عن الصورة من الخارج، وهو أن هذا البلد قد ظلمه أبناؤه وكفاءاته لأن هؤلاء تأخروا كثيرا في التعريف به وبنهضته، وظلمه أيضا أصدقاؤه في الخارج، الذين مع أن عيونهم كانت ترى بعض الحقائق فإنهم بقوا على تصديقهم القديم للانطباعات والروايات السابقة، التي كان يروجها إعلام مرحلة صراع المعسكرات والحروب الباردة والساخنة، التي جرفت بعض العرب في تياراتها الهادرة، وجعلتهم يغلقون عيونهم وآذانهم وقلوبهم أيضا، كي لا ترى إنجازات أشقائهم، في دول كانت أنظمة الانقلابات العسكرية تصر على وصفها بـ«الرجعية»!!

في ندوات سوق «عكاظ» الجديدة اكتشف من كان لا يعرف السعودية من الداخل، أن هناك مدارس فكرية تتقارب وتتباعد، كما هي المدارس الفكرية في القاهرة وبغداد ودمشق ذات يوم، وأن الاختلاف بين من يتمترس من هذه المدارس عند الماضي ونَقْله، ومن ينشد التجديد على أساس تحكيم العقل، يصل في بعض الأحيان حتى حدود الصراع والمشاجرات الكلامية، وهذا يدل على أن هذا البلد العربي، الذي ظُلِم من إخوانه وأصدقائه أكثر مما ظلمه أعداؤه، قد قطع خطوات ثابتة على بداية طريق نهضته الجديدة التي أعطيت دفعة قوية منذ لحظة انتقال أمانة رسالة الحكم إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي ينظر إليه السعوديون على أنه طوَّر ما وصل إليه وما كان يشارك فيه بسرعة ضوئية.

إنه لا يجوز الاستمرار في الحكم على السعودية من خلال زوايا العيون الكليلة التي كانت تتعمد عدم رؤية الحقائق، وأنه ظلم ما بعده ظلم، ألا يعرف العرب المحبون والكارهون أن هذا البلد يشبه النهر العظيم الذي يعتقد الناظر إليه عن بعد أنه ثابت لا يتغير، وذلك في حين أنه يتغير ولكن بسلاسة وهدوء وبدون أمواج عاتية، ولا تيارات في كل طرفة عين وفي كل لحظة وثانية.

الآن بدأ خريجو أهم الجامعات العالمية وأفضل الجامعات الوطنية يمسكون بأهم المواقع في مفاصل الدولة، وبدأت الحاجة إلى الخبراء «الخواجات» تتراجع حتى حدود الاقتراب من التلاشي، والملاحظ أن عملية التجسير بين الآباء والأبناء تسير وفق تصورات وخطط منظمة يرعاها، على مدى حركة عقارب الساعة، الملك عبد الله بن عبد العزيز ويعاضده في هذه المهمة الجليلة أشقاؤه الذين يشكلون فريقا يتواصل عطاؤه بصورة تثير الدهشة والإعجاب بالفعل.

خلال هذه الأيام يتركز الجدل على الظاهرة الحوثية التي ثبت، إلا لمن اختار أن يكون أعمى بصرٍ وبصيرة ويرفض رؤية حقائق الأمور، أن هناك من عمل مبكرا لتكون هذه الظاهرة بمنزلة شوكة عَوْسج في الخاصرة السعودية لاستنـزاف هذا البلد، الذي يشكل الحلقة الرئيسية في السلسلة العربية والإسلامية، ولخلق ضاحية توتر في جنوبه، كضاحية التوتر والإقلاق التي أُوجدت في جنوبي بيروت بل في جنوبي لبنان، وكضاحية التوتر والإقلاق التي فرضها الإيرانيون على الحالة الفلسطينية بعد أن أفشلوا اتفاق مكة المكرمة ودفعوا حـركة «حماس» إلى القيام بالانقلاب الدموي الذي قامت به ضد منظمة التحـرير والسلطة الوطنية.

وخلال هذه الأيام يحتدم النقاش في المنتديات والمجالس واللقاءات المحدودة، وعلى صفحات الصحف وعلى شاشات الفضائيات، في بعض الأحيان تلميحا وفي بعض الأحيان تصريحا، حول ما يطرحه «الليبراليون» وما يقوله المحافظون وحول الموقف من الموروث والمستحدث ولكن بلا فوضى وبلا مهاترات، ووفقا لنسق يؤكد أن كل هذا يجري وعين وليّ الأمر لا تفارقه، وتوجيهات القيادة ترافقه عن كثب وتشجعه.

متابعة وضع القضية الفلسطينية في كل مكان، وهناك اتفاق من قبل، حتى أصحاب الآراء المختلفة والاجتهادات المتعارضة، على رفض انقسام الفلسطينيين وإدانة تمزقهم، والتنديد بمن وضع منهم نفسه وقضيته على خريطة التناحرات والاستقطابات الإقليمية، بينما هذه القضية تتوقف عند هذا المنعطف الخطير، وأصبحت أمام مفترق وبات يجب على أهلها أن يغلِّبوا الرئيسي والأساسي على الثانوي، وأن يقدموا المهم على ما هو أقل أهمية.

حتى موضوع اختلاف الإخوان المسلمين وخلافاتهم فإنه يأخذ حيزا رئيسيا في هذه الحوارات والنقاشات، وهنا فإن ما لا يلمسه المراقب عن بعد ومن الخارج، أن هناك ما هو أكثر من عتب على هذه الجماعة، وأن هناك شبه اتفاق على أن هؤلاء قد أساءوا لمن أحسن إليهم، وأنهم انحازوا ضد من احتضنهم، وأن النائب الثاني وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز قد وضع النقاط على الحروف عندما وصفهم بأنهم سبب البلاء، وأنهم باتوا يشكلون حاضنة للظاهرة الإرهابية.

هناك الآن ما يمكن وصفه بـ«الثورة الثقافية» السعودية، ولكنها ثورة تختلف عن الثورة الثقافية الصينية الشهيرة التي أطلقها ماوتسي تونغ ليحطم بها أعداءه ومناوئيه، في أنها تجري بسلاسة، وأن راعيها ومشجعها ومتابعها يريدها وثبة في اللحظة الصحيحة نحو المستقبل ونحو الانطلاق، بدولة عملاقة شعبا وأرضا وإمكانات، لتصل إلى مقدمة مسيرة الحضارة الإنسانية.

إن للمرأة دورا رئيسيا في هذه الثورة الثقافية؛ فالبعض يريدها منطلقة ومتحررة لكن ضمن ما يحدده الدين الإسلامي وضمن أساسيات القيم الاجتماعية، والبعض يرى أن الوقت لا يزال مبكرا لقفزة عريضة في هذا الاتجاه، وحسب هؤلاء فإن عدم مراعاة التدرج والتقدم خطوة خطوة على هذا الطريق سيؤدي إلى خلل اجتماعي في وقت يحتاج فيه المجتمع السعودي إلى المزيد من التماسك والمزيد من الوحدة.

وحتى بالنسبة لتاريخ هذا البلد فإن هناك جدلا حول كيفية تدوينه، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل، المشهود له بغزارة ثقافته واتساع أفقه وتميز عطاءاته في كل المجالات، قد شكا أمام عدد من حضور مجلسه الأنيق من الطريقة النمطية التي دوِّن بها تاريخ المملكة العربية السعودية في مرحلة وعهد الدولة الثالثة، وقد طالب بألا يكون هذا التدوين سردا روائيا مدرسيا، بل دراسة تضع كل حدث في إطار الأوضاع الاجتماعية السائدة، وعلى طـريقة ابن خلدون الذي لم يفصل بين تطور المجتمعات والتحولات السياسية الحاسمة والهامة.

هناك في السعودية الآن ثورة اقتصادية حقيقية تسبح ضد تيار الأزمة المدمرة التي تضرب العالم من أقصاه إلى أقصاه، والدليل هو أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة، من العالم الثالث ومن الدول العربية والإسلامية، التي شاركت في قمة العشرين الكبار، ثم وهناك في السعودية الآن حقيقة كانت قبل فترة قريبة بمنزلة حلم يرى البعض أنه بعيد عن التحقيق .. وهذه الحقيقة هي أن هذا البلد العربي العظيم يعيش الآن حالة ثورة ثقافية لها بعض صفات الثورة الثقافية الصينية، ولكن بدون عنف ولا تصفية حسابات، وأنه يعيش أيضا لحظة تحول ستأخذه حتما، بهمة قيادة لا تعرف التثاؤب والاسترخاء وعزيمة شعب يلتف حول قيادته، إلى مصاف الدول التي تتصدر ركب الحضارة الإنسانية.