الوجه المتغير للطائفية السياسية

TT

لا ينقص اللبنانيين لا طبل ولا زمر ليرقصوا على وقع أي معزوفة كانت. فلماذا يستغربون عودة معزوفة الطائفية السياسية إلى الحلبة، من بوابة موجبات الدستور هذه المرة، وهي كانت ولا تزال معزوفة بلدهم المزمنة؟

أن تبرز الطائفية السياسية كالمشكلة الأم في لبنان، بين زحمة المشكلات التي يواجهها لبنان (وضع بلدة الغجر، والسلاح «غير الشرعي» والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات والتعيينات الإدارية والكهرباء..) مؤشر كاف على أنها تجاوزت تاريخ تسويقها Sell by Date))، بتركيبتها الراهنة على الأقل.

على هذا الصعيد، ومهما قيل في دوافع رئيس البرلمان، نبيه بري، لأن يطرح في هذا الوقت بالذات اقتراح إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية (التي نص عليها الدستور اللبناني)، يظل هذا الطرح فرصة تاريخية لنقل لبنان من موقع «الدولة» إلى موقع «الوطن».

قياسا على الفرص المماثلة، لن يقصر اللبنانيون في تفويت هذه الفرصة لبناء الوطن الواحد لجميع أبنائه. وردود الفعل المعارضة لطرح الرئيس بري توحي بأن الطائفية في لبنان لم تعد مجرد نظام سياسي بل طريقة حياة ترّبت على «مبادئها» أجيال من اللبنانيين المستفيدين من الأمر الواقع.

قد يكون لبنان مدينا للطائفية في وجوده الجغرافي. ولكن النظام الطائفي تحول، مع السنين، إلى عقبة في وجه التطور وإلى عدو للكفاءات ونصير «للمحسوبيات»، فبأي مقياس سياسي أو دستوري واقعي لم يعد تصنيف اللبنانيين إلى «مواطنين» يتمتعون بكامل حقوقهم السياسية والإدارية، و«رعايا» محرومين من العديد من فرصها، مقبولا بأي عذر كان.

ولأن نظام الطائفية السياسية نظام «عريق» في لبنان تعود جذوره إلى ما عرف بـ«المسألة الشرقية»، أي الصراع الأوروبي مع السلطنة العثمانية (المسيطرة على لبنان) على «تركة» الشرق الأوسط، قد لا يكون إلغاؤه متاحا بقرار سياسي يتخذه اللبنانيون وحدهم خصوصا أن هذا النظام كان في أساسه حصيلة تسويات خارجية بالدرجة الأولى، بدأت عثمانية - أوروبية (نظام القئمقاميتين والمتصرفية)، ثم فرنسية - بريطانية (اتفاق سايكس - بيكو الذي أفرز لبنان الكبير) لتنتهي عربية - عربية (اتفاق الطائف).

مفهوم النظام الطائفي في لبنان لم يتبدل منذ قيام لبنان الكبير في العشرينات من القرن الماضي، ولكن صورته تبدلت بحكم المتغيرات الديموغرافية فيه وتحولات موازين القوى الإقليمية المتدخلة طائفيا في لبنان، فاليوم لم تعد «القضية» الطائفية الأبرز مطالبة المسلمين بحصة أكبر في الحكم، الأمر الذي تحقق بموجب نظام المناصفة الإسلامية - المسيحية الذي كرسه اتفاق الطائف عام 1999، بل تخوف الأقليات الطائفية الأخرى من خسارة مواقعها في الدولة بفعل ما تشهده من تنافس شيعي - سني على السلطة.

هذا التبدل في «الصورة الطائفية» في لبنان يفسر تمسك المسيحيين بالمناصفة التي أرساها اتفاق الطائف كونها تقيهم تبعات التغيّرات الديموغرافية الحاصلة لغير مصلحتهم (التي يفاقمها ازدياد الهجرة) ويبرر معارضة القيادات السنية أيضا لأي مساس باتفاق الطائف قد يعيد طرح اقتراح «المثالثة» (الشيعية - السنية - المسيحية) في مواقع القرار.

باختصار نظام الطائفية في لبنان سيف ذو حدين آن الأوان للتخلص منه بدستور يكرس التمثيل البرلماني الوطني للبنانيين والقائم على الانتماء الحزبي لا الولاء الطائفي.

ولكن بعد أن «تطيّفت» الأحزاب اللبنانية وأصبحت جهة «تمثيلية» أخرى لطوائفها قبل مبادئها، بات من الأجدى اعتماد مقاربة مرحلية لإلغاء النظام الطائفي تبدأ بتطمين الأقلية المسيحية - ربما عبر تعزيز نسبي لصلاحيات رئاسة الجمهورية في إطار سد ثغرات دستور الطائف - وباعتماد تمثيل طائفي متساو على الصعيد التشريعي في إطار مجلس للشيوخ نص اتفاق الطائف عليه منذ أكثر من عقد من الزمن.. هذا بانتظار القرارين، الإقليمي والدولي، من هذا الشأن «اللبناني».