المثقفون الإيرانيون والخروج من المأزق

TT

لعب المثقفون الإيرانيون في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، دورا بارزا في الإعداد للثورة على الشاه. والمثقفون الذين نتحدث عنهم هم في الغالب من غير رجال الدين، وإن كانت أكثريتهم على علاقة بهذا المرجع أو ذاك. وقد تولى هؤلاء - ممن لم يكونوا من الشيوعيين أو اليساريين - مناصب ثقافية وسياسية متوسطة الحجم والقيمة بعد الثورة. واعتبر كثير منهم أنهم نجحوا مرة أخرى في القيام بحركة تصحيحية عندما جمعوا الشباب من حول شخصية السيد محمد خاتمي، الذي تولى رئاسة الجمهورية الإسلامية في العام 1997. بيد أن فشل السيد خاتمي في إحداث التحول التصحيحي المرجو، رغم سيطرة أنصاره على مجلس الشورى أيضا، دفع كبارهم ومتوسطيهم باتجاه مغادرة البلاد بعد سجن أو عزل أو إبعاد أو استبعاد. وبعد الانتخابات الأخيرة، كانت للعديد منهم تصريحات أو كتابات تنتقد هذا الأمر أو ذاك، لدى السلطة أو لدى معارضيها. أما الذي حصل هذا الأسبوع، فهو أن خمسة من كبارهم أصدروا بيانا متشددا في إدانة ما حصل ويحصل، واقترحوا مخرجا أو مخارج لمغادرة المأزق أو معالجته. أما المثقفون المقصودون فهم كل من: عبد الكريم سروش، ومحسن كديور، وعطا الله مهاجراني، وأكبر غانجي، وعبد العلي بازركان. وفيما عدا بازركان، الذي لا أعرف عنه غير أنه ابن مهدي بازركان الذي كان أول رئيس للوزراء بعد الثورة؛ فإن الأربعة الآخرين ظلوا منذ الثمانينات من القرن الماضي كتابا ومثقفين ومفكرين في مزيج من الاهتمام بالتجديد الروحي والفقهي في الإسلام والعناية بإصلاح شؤون الحكم والمجال العام. ولا شك أن عبد الكريم سروش هو أشهر هؤلاء، وهو صاحب اتجاه صار يعرف باسمه للتجدد الروحي، والإصلاح السياسي. وقد اشتهر من كتبه: «القبض والبسط في الشريعة» الذي ترجم إلى عدة لغات منها العربية. وأكبر غانجي صاحب توجه ليبرالي معروف، دخل من أجله السجن عدة مرات. في حين تميز محسن كديور من بينهم برفض نظام ولاية الفقيه، واعتباره أن الديمقراطية (=حكم الشعب) هي النظام الإسلامي الصحيح. وقد نافس مهاجراني على رئاسة الجمهورية مرتين، وصار وزيرا للثقافة أيام الرئيس خاتمي. ثم أرغم المحافظون (والمرشد شخصيا) خاتمي على إقالة مهاجراني بسبب ليبراليته تجاه وسائل الإعلام. ثم اضطر لمغادرة إيران هربا من الوقوع في أحابيل مؤامرة أخرى.

ما هي مضامين بيان المثقفين الخمسة؟ المطالب ثورية مثل مطالبة الرئيس محمود أحمدي نجاد بالاستقالة، وتنظيم انتخابات جديدة حرة ونزيهة، وإطلاق سراح العمل السياسي وحرية الإعلام، وعودة الحرس الثوري من الشارع السياسي إلى الثكنات، وإبعاده عن الاقتصاد وعقود الصفقات المشبوهة. أما أبرز بنود البيان فهي تلك التي تتناول المرشد الأعلى شخصيا والذي يسمونه: الطاغية. فهم يريدون أن ينتخب من الشعب مباشرة، وتكون ولايته محددة المدة، ولا يستطيع التدخل في عمل مجلس الشورى والمؤسسات الثقافية والإعلامية والقضاء. وينتهي الأمر بهم إلى القول إنهم يريدون أن يكون المرشد ومجلس الخبراء بمثابة المحكمة الدستورية، وبصيغة أدنى إلى ما أراده واضعو دستور أو مشروطية العام 1906. بشأن العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية.

ما معنى هذه المقترحات، وأين تقع مما حصل في الانتخابات الرئاسية وما بعدها؟ يذهب هؤلاء المثقفون البارزون إلى أن ما حصل في الانتخابات الرئاسية ليس عرضيا أو مفاجئا؛ بل هو نتاج تراكمات توالت بعد نهاية الحرب العراقية/الإيرانية. وهذه التراكمات ناجمة عن الصلاحيات شبه المطلقة التي يتمتع بها المرشد، والتي حولته إلى طاغية لا يدين بسلطته للشعب، ولا يتعرض للمحاسبة أو الرقابة من أي جهة عمليا. فبدلا من أن يعمد المرشد لتسيير دفة الأمور سياسيا وصياغة التوازنات بين التيارات والجهات المشاركة في السلطة؛ فإنه عمد ببساطة إلى استخدام السلطات المطلقة التي يتيحها له الدستور. وبذلك ظهر بالتدريج نظام يشبه في انغلاقه واستبداديته ما كان يجري أيام الشاه. وزاد الطين بلة أن الحجج المستعملة لتثبيت السيطرة كلها دينية، تجعل من الاعتراض صعبا جدا، كما تجعل المعارضة مستحيلة، لأن الأمرين يصادمان الدين. فالمرشد الأعلى إنما يتولى المنصب الذي كان ينبغي أن يتولاه الإمام المنتظر المعصوم لو كان حاضرا. ومن الجلي أن ذلك أدى من جهة إلى قمع محاولات التصحيح والإصلاح، ومن جهة أخرى إلى وضع المثقفين والإعلاميين والمعارضين السياسيين في مواجهة مع أجهزة النظام الأمنية والقضائية، ومع العامة التي يقال لها على الدوام إن هؤلاء المعترضين إما من عملاء الخارج، أو من أعداء الله الذين ينبغي أن ينفذ في حقهم حد الحرابة!

على أن هذا كله، لا يدفع هؤلاء المثقفين للدعوة للتغيير من طريق التمرد والثورة. فالناس يخشون الفوضى، وإن خيروا بين حكم الاستبداد أو التمرد؛ فقد يختارون الاستقرار على أي إغراء آخر. ولذا فإن العلاج ينبغي أن يبدأ بالانتخابات الحرة لسائر السلطات وعلى رأسها المرشد، دونما لجوء إلى العنف بأي شكل كان.

إلى من يتوجه مثقفو إيران الكبار في بيانهم هذا؟ الواضح أنهم يتوجهون به إلى المعارضة السياسية التي ظهرت بين الشباب وفئات الطبقة الوسطى بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة. والمعروف أن التظاهرات بدأت سلمية وطرحت مطالب محددة. وعندما قوبلت بالقمع، وسقط في صفوفها عشرات القتلى ومئات الجرحى، بدأت تتحول باتجاه العنف. وهذا الأمر هو الذي أخاف هؤلاء المثقفين ويخيفهم. فالعنف الذي يظهر فعالية وتأثيرا من نوع ما، يدفع الجمهور أو أجزاء واسعة منه إلى الإعراض أو العدوانية. بينما المطلوب من وراء المعارضة والاستمرار فيها توسيع الدوائر بطرائق تدريجية، تعجز معها الأجهزة عن المضي في اجتياح المعارضين. وينتظر المثقفون (مع انضمام فئات جديدة من رجال الدين والتجار) أن يحدث التحول المرجو والممهد للإصلاح من طريق الانتخابات. فالانتخابات الحرة تأتي بالإصلاحيين، والإصلاحيون يدفعون باتجاه تعديل الدستور، وفصل السلطات، وضبط الأجهزة، وإقصاء أصحاب المصالح الخاصة والفاسدين.

بيد أن المشكلة في هذا التصور الذي يطرحه سروش وزملاؤه - كما ذكر عديدون في تعليقات على البيان - أن هذه التجربة حدثت من قبل، وما آتت ثمارها المرجوة؛ فالانتخابات الحرة (المحدودة الأفق) عام 1997 وعام 2001 أوصلت الإصلاحي خاتمي إلى رئاسة الجمهورية. وخاتمي بدوره عين وزراء إصلاحيين، وكان البرلمان الإصلاحي في أكثريته - في فترة خاتمي الأولى على الأقل - معينا في ذلك الجهد والمسعى. لكن القضاء والإعلام والأجهزة الأمنية، بقيت كلها في يد المرشد والمحافظين. وهذه الجهات قامت بأمرين: الحيلولة دون المضي في الإصلاح الإداري والاقتصادي والسياسي، وقمع الإعلاميين والإصلاحيين من طريق القضاء والأجهزة. ولذا ما احتاج الأمر إلى كثير من الجهد في انتخابات مجلس الشورى التالي لإعادة الأكثرية إلى أحضان المحافظين، بسبب إعراض الفئات الوسطى يائسة عن المشاركة في الاقتراع، وإقبال العوام من جهة ثانية على تلك الانتخابات بالذات نصرة للمرشد، رغم الظروف الاقتصادية السيئة للأكثرية الساحقة.

وهكذا فإن الإصلاحيين الراديكاليين، يقرون بأن العنف ليس لصالح دعاة الحرية؛ لأن الأجهزة الأمنية هي الأقدر في عمليات القمع، كما أن المحافظين هم الأقدر على اجتذاب الفئات الدنيا في المجتمع. لكنهم لا يوافقون سروش وزملاءه على أن النظام يستطيع بالضغوط الانتخابية البحتة، أن يصلح نفسه. بل المطلوب الاستمرار في التظاهر في شتى المناسبات. والمطلوب العمل على الأرض مع الجمهور في أوساطه، وتحمل القمع والتضحيات، كما حدث في العامين 1978 و1979. وقد اعتاد المحافظون على ضبط الوضع في السابق، من طريق حرمان أكثرية الإصلاحيين من الترشح. وعندما وجدوا أن هذا الأسلوب لا يضمن النجاح دائما، لجأوا لتزوير الانتخابات. وقد افتضحوا نتيجة هذه الممارسات، وهم يدركون ذلك. ولذا فينبغي أن يستمر الضغط في الشارع، لكي لا يتجرأ النظام على التزوير ثانية وثالثة. وهذه عملية مضنية وطويلة، وإذا كان الإصلاحيون يرون صعوباتها؛ فإن المحافظين لا يستطيعون المضي فيها إلى ما لا نهاية. وقد اتضح هذا الأمر من قبل عندما عجزت قوى الشاه عن الاستمرار في قتل الناس، فسلمت بتغيير السلطة.

لقد وقع الانقسام عندما فقد المسيطرون ثقة الشباب والفئات الوسطى. لكن النظام يراهن على قدرته في كسر إرادة الساخطين من طريق العنف السلطوي. أما سروش وزملاؤه فيراهنون على التغيير سلما من طريق التحول والتجدد الروحي والواقعي في الوعي والتصرف. فالوعي والإرادة هما اللذان يغيران الواقع، أو أن هذا هو ما حدث في أواخر السبعينات من القرن الماضي في إيران، كما حدث مثيل له في أوساط عشرات الشعوب بآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان في تسعينات القرن الماضي.