ما أغضب إسرائيل.. ابتسامة أردوغان أم ضحكة الحريري؟

TT

الأتراك لا يعرفون كثيرا عن أسرة الحريري وماضيها وشبكة الخدمات الاجتماعية والتعليمية والإنمائية التي أقامتها خلال نحو 30 عاما من الجهد والبناء في لبنان. قبل أيام، ونحن نرحب بالرئيس سعد الحريري في أحد فنادق إسطنبول بحضور حشد من الإعلاميين والأكاديميين ورجال الأعمال والسياسة، عادت بي الذاكرة فجأة إلى عام 1984 عندما كنت طالبا أعد أطروحة الدكتوراه في باريس ودعاني مجموعة من الشباب اللبنانيين لحفل تعارف يقام على شرف الرئيس رفيق الحريري الذي مولت مؤسساته آلاف الطلاب لإكمال دراساتهم في الخارج.. هي الضحكة والنظرة وخطوات الثقة بالنفس ذاتها انتقلت من الأب إلى الابن.

مازحت المذيعة التركية رئيس وزراء لبنان الجديد خلال استضافته في حوار تلفزيوني حول نتائج زيارته الأخيرة إلى تركيا بالقول إن الزيارة والموضوع اللبناني، هما سبب الأزمة الأخيرة التي تفجرت بين أنقرة وتل أبيب، فإسرائيل تهدد وتتوعد ووزير دفاعها يقوم بجولة تفقدية للوحدات الإسرائيلية المرابطة على الحدود مع لبنان، فرد ضاحكا وكأنه يعرف المثل التركي الذي يقول «ليس كل طير يؤكل لحمه». عنجهية إسرائيل وتكبرها وتعجرفها في التعامل مع المسائل والأشخاص هو سبب ما يحل بها.

العلاقات التركية اللبنانية ظلت لسنوات طويلة تحت تأثير رواسب الماضي والجوانب السلبية في تاريخ الحكم العثماني ومحاولات بعض القوى الأوروبية صب الزيت فوق نار هذه العلاقات لتأجيجها، ثم إصرار آلاف الدياسبورا الأرمنية المنتشرة في لبنان على محاسبة الأتراك والانتقام منهم ملوحين بورقة التعاطف اللبناني والوقوف إلى جانبهم في مأساتهم هذه إلى أبعد الحدود حتى ولو كانت انطلاقة المقاومة المسلحة وتأسيس خلايا الجيش السري الأرمني قد بدأت من بيروت، من دون أن ننسى طبعا تمركز مجموعات حزب العمال الكردستاني في البقاع لسنوات طويلة مستفيدة من الفراغ والتخبط الأمني والسياسي الذي كانت تعانيه البلاد لإقامة المخيمات والقواعد ومراكز التدريب المسلح التي كانت تنطلق منها العمليات العسكرية ضد تركيا. أما اليوم فها هو الحريري يقصد أنقرة ليختارها في طليعة العواصم التي قرر زيارتها بصفته السياسية الجديدة على رأس وفد وزاري يضم القوى كافة التي تمثل الشرائح السياسية والاجتماعية وكأنه يحمل نموذج لبنان المصغر إلى العاصمة التركية، وهذا هو بالتأكيد سبب الغضبة الإسرائيلية الأول.

كما قد تكون خطوة إلغاء تأشيرات العبور التي بدأتها تركيا مع الكثير من العواصم العربية والإسلامية وتابعتها مع لبنان كبادرة تتقدم بنجاح؛ فهي إلى جانب مردودها التاريخي والإنساني والاقتصادي بين الدول، تساهم في رفع الكثير من القيود والحواجز والعقبات في علاقاتنا، هي السبب الذي يغيظ إسرائيل ويجعلها تفقد صوابها على هذا النحو. لا أحد سوى اللبنانيين والأتراك يعرفون معنى إلغاء تأشيرة العبور برا وبحرا وجوا وإزالة طوابير طويلة كانت تنتظر في ساعات الصباح الباكرة أمام أبواب بعثات البلدين حاملة لملفات ولأوراق ومستندات وإثباتات ألغيت جميعها.. أبرز وثيقة سفرك وعرف بجنسيتك لتعبر الحدود بمثل هذه البساطة. كيف لا يشكر الحريري أمام الصحافة حكومة أردوغان على ما تقدمه للبنان وفي ذهنه التساؤل الأكبر: كم هو عدد البلدان الشقيقة والصديقة التي فتحت حدودها أمام المواطن اللبناني الذي عانى وما زال في الحصول على مثل هذه التأشيرة؟

النقطة الأبرز التي نعرف أنها أغضبت الإسرائيليين بالتأكيد هي عقود واتفاقيات التعاون وتبادل المعلومات والخبرات العسكرية والأمنية التي ستتحول قريبا إلى مناورات مشتركة كما حدث مع سورية والأردن والكثير من الدول الخليجية أخيرا، وهذا ما فسرته تل أبيب بدخول مباشر لتركيا في منطقة تعتبرها ومنذ سنوات داخل حدود نفوذها الأمني والاستراتيجي ومحاولة حرمانها من هذه الورقة التي تلوح بها وتستخدمها كما تشاء. أردوغان أعلن أمام الحريري ومن دون تردد أن بلاده ستكون أكثر حزما وصرامة في التعامل مع من يحاولون تهديد أمن ووحدة لبنان وسيادته واستقراره بعد الآن.

زيارة الحريري إلى أنقرة هي نقلة استراتيجية بكل معنى الكلمة، فهو كان محترفا في تحديد توقيتها واختيار موضوعاتها لتكون الخطوة الكبيرة على طريق الألف ميل التي تعيد للبنان رغم صغر مساحته وقوته الاقتصادية المحدودة وظروفه السياسية الصعبة، موقعه ومكانته الإقليمية والدولية.

*كاتب وأكاديمي تركي