الفرنسي الرافض جميعا

TT

لم أعرف، أو أقرأ، أو أسمع، أن أحدا أحب طباع الفرنسيين. وثمة إجماع عالمي، قديم وحديث، أنهم عصبيون، نزقون، حادون، ورفضيون. ومذ جئت إلى باريس أول مرة، العام 1961, وأنا أخاف أن أطرح سؤالا على فرنسي، عن عنوان أو طريق أو اتجاه. وعندما اضطررت إلى ذلك، وجدت أحيانا من يجيب بتأفف، وغالبا من يرفع يديه في الهواء صارخا: «لا أدري. أنا لا أدري. أنا لا أعرف». وصدف مرة أنني كنت أبحث عن مكتب «طيران الشرق الأوسط»، في شارع «سكريب»، القريب من الأوبرا، فسألت صاحب كشك الصحف، عند مدخل الشارع، فصرخ، رافعا يديه: «لا أدري. أنا لا أدري. لا أعرف. لا أعرف». 

ليس هذا طبع الناس في الطريق، أو طبع بائع الصحف، الموجود على مدخل الشارع منذ ربع قرن، أو النادل في المقاهي، أو الدليل في قاعة المسرح الذي يتصرف وكأنه حفيد نابوليون، بل هو صفة عامة وظاهرة قديمة. ويقول الفرنسيون إن هذه هي صفات الباريسيين وحدهم، فهم متعَبون، مرهَقون وفاقدو الأعصاب. لكنك سوف تلاحظ هذه العصبية الرفضية والعجرفة المتعالية في تولوز وطولون ونيس. وقد جعل الفرنسيون «شفيعتهم» راهبة تدعى جنفياف، في القرن السادس، لأنها أمضت حياتها تصلي وتتضرع، ألا يدخل أي غريب إلى باريس. حتى من الضواحي.

لكن هذه هي فرنسا التي نجح فيها جميع غرباء الأرض. من ليوناردو دافنشي إلى بابلو بيكاسو إلى أمين معلوف إلى طاهر بن جلون إلى المغنية الأميركية السمراء جوزيفين بيكر، إلى جيمس جويس وصامويل بيكيت، أشهر كتاب أيرلندا، إلى المخترعة مدام كوري، إلى المغني الإيطالي إيف مونتان، إلى همنغواي، إلى الروماني المسرحي إيونسكو. لقد كان الفرنسيون أول من استخدم كلمة «النخبة»، أوائل القرن الماضي، لكي يميزوا أهل الفكر والفن والفلسفة والآداب. وإلى الآن ليس من دولة تعامل قضايا الفكر والعقل كما تعاملها فرنسا. ورغم «كأس العالم» وزين الدين زيدان، فإن فرنسا هي أقل دول العالم اهتماما بشؤون الرياضة، بالمقارنة مع الاهتمام بشؤون الثقافة والفنون. لكن هذا الحرص على اللغة والتعبير والتراث يجعل الفرنسي عصبيا إلى درجة مرضية. ويجعله أيضا المواطن الغربي الوحيد الذي لا يزال يرفض ويتحدى الهيمنة الثقافية الأميركية.