ممنوع الدخول

TT

سبق أن ذكرت لكم، ولا بأس أن أعود لما ذكرته لسببين أولا: لمن فاته ذلك، وثانيا: لألمي الذي ليس له حد إلى هذه الساعة، لضياع فرصة في حياتي أعتقد أنها لن تتعوض - على أية حال فحياتي كلها عبارة عن فرص ضائعة والحمد لله.

والحكاية وما فيها يا سادتي: أنني ذهبت في سنة من السنوات لزيارة صديق يمتلك مزرعة في القصيم، وكنت وقتها في أحسن حالاتي من ناحية الإقبال على الحياة بجميع أشكالها، وفوق ذلك كنت (هابق)، وزاد من بهجتي أنني تعرفت على شاب أمريكي مع زوجته يديران تلك المزرعة، وذكر لي أنه توجد (تلّة) أو هضبة في تلك المزرعة يوجد بها أحجار من الماس، وما أن ذكر لي ذلك (الخواجة) هذه المعلومة حتى (تحاولت عيوني)، ولم أصدقه في حينها بل أنني غضبت نوعاً ما ظنّاً مني أنه مستخف بعقلي، وعندما شاهد هو تعبيرات وجهي حتى نادى على زوجته أن تحضر سريعاً - وهي بالمناسبة امرأة (معصعصة) تذكرني بالمعزة -، أتت المعزة أقصد الزوجة وطلب منها أن تحضر (النكلس) الماس العائد لها، وفعلا أحضرته، وإذا به عقد أنيق لا تملك إلاّ أن تشتريه (بالشيء الفلاني).

وقال لي: هل تشاهد هذه (الفصوص)؟!، إنني أخذتها من تلك الهضبة، وفي الإجازة السنوية ذهبت أنا وزوجتي إلى (هونغ كونغ)، وعرضناها على صاحب معمل لقطع الماس وفحصها جيداً ثم شذبها وذهبت بها إلى صائغ صنع منها هذا العقد الذي تراه مؤطراً (بالبلاتين)، ولو أنني عرضته للبيع لبعته بثمن أكثر من أجرتي التي أمضيتها في هذه المزرعة لمدة سنتين.

عندها لم أكذب خبراً، بل أنني لم أنم (على بعضي) في تلك الليلة، ولم أصدق حتى يطلع الفجر وذهبت ركضاً إلى تلك الهضبة، وأخذت أقلّب الأحجار والحصى والرمل إلى درجة أن عيوني (زغللت)، وعندما حان وقت الغداء ونادوني اعتذرت منهم لأنني شبعان، والله يعلم أن بطني كان وقتها ملتصقا بظهري، ولكنها (الشفاحة) وحب الدنيا وحب الثراء الذي سيطر على كل مشاعري، وظللت أنبش ووجهي طوال الوقت منكس على الأرض إلى أن غربت الشمس، واستطعت بعد كل هذا البحث والتنقيب أن أحصل على عدّة حصوات برّاقة شفافة كالزجاج، فرحت بها جداً، وفي المساء وبينما كنا متحلّقين حول النار، عرضتها على ذلك الأمريكي لكي يعطيني رأيه فيها، فأحضر كأساً زجاجياً وأخذ يشحذ تلك الحصوات أو الأحجار به، وكلما شحذ واحدة قال لي: هذه لا تنفع، غير أن أربع حصوات منها استطاعت أن تخترق الزجاج وتفلقه، فأكد لي أنها (ماس)، ولكنها في حاجة إلى أن تصقل، ومن شدة فرحتي لم أنم لليلة الثانية على التوالي، وكان من المفروض حسب تخطيطي أن أمكث عند ذلك الصديق أسبوعا كاملا، غير أنني في اليوم الثاني استأذنت بحجة أن لدي ظرفا عائليا ولا بد وأن أغادر، وأنا في الواقع كنت أكذب، فقد أعماني (الماس)، وفعلاً سافرت إلى جدة، وذهبت بحجارتي إلى رجل شغلته بيع المجوهرات، وعرضت عليه كنزي لكي يفحصه ويعطيني رأيه فيه، ومر يوم وشهر وسنة، وكنت كل أسبوع أتصل به تلفونياً وأسأله عن النتيجة، ولا أجد منه غير جواب واحد: اصبر، لا تستعجل، لا تصير خفيف، كم مكثت في بطن أمك؟!، وأخيراً قال لي بكل بساطة: آسف لقد ضاعت تلك الأحجار في زحمة العمل والحق على العمال المهملين، وأعقب كلامه قائلا: على أية حال لا تحزن فإنني أعتقد أن تلك الأحجار (فالصو)، وأسقط في يدي ولم أعرف كيف أحاججه فليس في يدي ما يدينه، وسلمت أمري لله.

لكي لا أطيل عليكم، فبعد عدة أشهر ذهب ذلك الأمريكي المسكين وزوجته ضحية حادث مروري حينما كانا في الطريق إلى بريدة يسير خلف سيارة تنقل على ظهرها سيارة أخرى وانفلتت السلاسل التي كانت تربطها وهوت على الطريق واصطدمت بسيارة الأمريكي مع زوجته وماتا بالحال. وذهبت مرة أخرى للمزرعة على أمل العثور على الماس، وتفاجأت أن ذلك الصديق قد باع المزرعة، وحرثت تلك الهضبة وتحول المكان كله إلى مشروع لتربية الأبقار، وصدمتني لافتة مكتوب عليها: ممنوع الدخول.

[email protected]