.. ويقال: الاجتهاد (ذريعة واسعة) للاختلاف.. ونقول: ليكن!!

TT

هي حجة قد يظنها الظان أنها دافعة للاجتهاد نافية له: حجة أن الاجتهاد (ذريعة واسعة) للاختلاف.. وأن الاختلاف مذموم.. لنؤجل دفع هذا الظن إلى أن يحين حينه من السياق.. ولنبسط القول - قبلا - في عزائم الاجتهاد ومقتضياته:

1- من مقتضى الإيمان بختم النبوات بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: بقاء باب الاجتهاد مفتوحا أبدا (بشرائط الاجتهاد المعتبرة علما وعقلا ).. لماذا يتوجب أن يظل باب الاجتهاد مفتوحا؟ لأن خبر السماء قد انقطع بانتقال النبي إلى الرفيق الأعلى قبل 1441 عاما.. وأمام التطورات والمشكلات والقضايا والتحولات الجديدة: ثمة خياران أمام المسلمين: خيار انتظار مجيء نبي جديد وهو انتظار إذ يتناقض مع عقيدة يقينية لا يصح إسلام المسلم إلا بها (عقيدة ختم النبوات بمحمد)، فإنه (انتظار وهمي) في الوقت نفسه، بمعنى أنه انتظار متعلق بوهم محض. ذلك أنه لن.. لن.. لن يأتي نبي جديد.. فختم النبوات بمحمد: أمر يقيني من حيث النص الخبري المعصوم في الكتاب والسنة.. ففي القرآن: ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)).. وفي السنة، قال النبي - فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما -: ((وأنا خاتم النبيين)).. وهذا أمر يقيني من حيث العقل والحكمة والموضوعية المنهجية. فإن توقع نبي جديد هو توقع لـ(تكرار) ذات الوحي، وذات التعاليم والقيم في التوحيد، والعدل، والأخلاق، وكرامة الإنسان ومسؤوليته العينية عما يعتقد ويقول ويفعل، والإيمان بالنبوات السابقة، والتوسط والاعتدال، ووحدة الجنس البشري، وسائر مبادئ الإسلام وقيمه.. نعم. توقع نبي جديد هو توقع لمجرد (تكرار) لذات الوحي، وذات التعاليم والقيم الآنفة.. والتكرار - بلا حاجة ولا حكمة - عبث من العبث.. والعبث محال في حق الله تعالى، لأنه بأسمائه وصفاته وأفعاله منزه عن ذلك: تقدس في علاه، ولا إله غيره.. ثم هو أمر يقيني من حيث (الواقع التاريخي)، فقد مر على بدء نبوة محمد 1441 سنة، ولم يظهر نبي حق مؤيد بالوحي والمعجزات الحقة.. نعم: ادعى النبوة نفر من الناس، ولكنهم كانوا جميعا كذابين 100%.. والله لا يختار لوحيه الكذابين لأنه ((أعلم حيث يجعل رسالته)).. أما الخيار الثاني أمام المسلمين - بعد انقطاع خبر السماء - فهو خيار ((تجديد الدين)).. والاجتهاد فيه أبدا. وهنا يفهم - في مقصده الرئيس - حديث: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها)).. فهذا وحي من الله بلفظ النبي.

2- من عزائم الاجتهاد ومقتضياته: أن النص الديني - في الوحييْن: الكتاب والسنة، ذو دلالات - في معظمه - تحتمل الاجتهاد، أو (النظر المتنوع).. هذه هي طبيعة نصوص الكتاب والسنة، وهي طبيعة أراد الله ورسوله لحكمة بالغة باهرة وهي: أن يعيش المسلمون - في كل عصر - إسلامهم بلا مشقة، ولا عسر، ولا حرج، ولا تعطيل مصلحة.. لكن هذا النص الديني يجمد بالغباوة، وينحرف بالتأويل الفاسد، فيتكوّن من هاتين الخطيئتين: ركام مفسد ومؤذ ومزعج من الثقافة البليدة، والأفكار المحنطة أو المعلّبة، والمفاهيم العقيمة التي أصابت المسلمين - في الجملة - بأوبئة وعاهات فكرية وثقافية واجتماعية تعبر عنها مفردات ومقولات متخلفة من مثل (المرأة شر لا بد منه) و(من تجمّل فقد تسفّل): يقصدون بالتعبير الأخير: أن الذي يحب الجمال ويتمثله - في اللباس والمركب والسكن إلخ - فقد تدنت منزلته عند الله، وفي دينه.. يقولون هذا، وهم غافلون (وهذه ألطف تهمة) عن قول الله جل شأنه: ((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)).. وفي الآية دلالات متعاضدة على إبطال ذلك المفهوم البائس النافر من الجمال.. ومن هذه الدلالات: السؤال الاستنكاري لمن نَاوَأ الجمال وترفع عنه، وحط من قيمته: مَن هذا البليد المجترئ على تحريم (زينة الله)؟!!

3- من عزائم الاجتهاد وموجباته: أن الحياة في تطور وتجدد دائبين. وأن كل تطور يفد بوقائع جديدة توجب نظرا جديدا فيها، وفي النص الديني نفسه.. يقول أبو إسحاق الشاطبي - صاحب الموافقات -: ((إن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد. وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضا اتباع للهوى. وذلك كله فساد، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما، وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق. فإذن لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان))

وعلى الرغم من توهج هذه الحقائق العقدية والعقلية والحياتية، ينشأ سؤال يقول: ولكن الاجتهاد (ذريعة واسعة) للاختلاف بين علماء الأمة.. والاختلاف مذموم.. ونحن نرد هذه المقولات بما ينقضها نقضا تاما: من أولها إلى آخرها: مستعينين بالله تعالى على ذلك:

أ- ليس كل اختلاف مذموم.. ومن زعم ذلك فإنه يحكم على الأمة كلها بالإثم والذم: من عهد الصحابة إلى عصرنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة، لأن هذه الأجيال كلها من المسلمين قد اختلفت اختلافا واسعا ومتنوعا.. فباستثناء الإجماع على الإيمان بوجود الله ووحدانيته وعبادته.. وعصمة القرآن من التحريف والتبديل.. وعصمة الرسول في البلاغ ووجوب اتباعه.. والإيمان بأركان الإيمان الستة، وبُنَى الإسلام الخمسة.. باستثناء هذه القضايا الأم التي انعقد عليها إجماع المسلمين - في كل العصور - فإن علماء المسلمين قد اختلفوا في كل قضية أخرى: بلا استثناء!!

ب- أن المذموم حقا هو (عدو الاجتهاد)، أي (التقليد) المعطل للعقول والمصالح ومقاصد الدين.. نعم. وما تعطلت مصلحة، ولا وقع المسلمون في الحرج والمشقة إلا بالتقليد المذموم، وإلا بالجمود الكريه، وإلا بالعدول عن الاجتهاد الواجب المتجدد.. إن من وجوه إعجاز الإسلام: أنه دين متناسق متناغم الحقائق والمعاني والمفاهيم - لا متضارب ولا متناقض -، فإذا شرع رفع الحرج: شرع ما يرفعه وينفيه: لا ما ينشئه ويستديمه: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)).. ومن هنا شرع الإسلام الاجتهاد وحض عليه حضا متصلا، ذلك أن الاجتهاد من أوسع أبواب رفع الحرج، كما أن التقليد مطية الحرج والعسر.

ج- لنقض مقولة (الاجتهاد ذريعة واسعة للاختلاف) (وهي مقولة تجعل الاجتهاد جهدا سالبا لوحدة المسلمين).. لنقض هذه المقولة طرحنا - منذ ثلاثين عاما - هذا السؤال ((هل من الممكن: ضغط عقول الناس - جميع الناس- في عقل واحد؟ الجواب بـ(نعم) يؤدي إلى تناقض مركب.. فالجواب بنعم يزعم الإمكان، بينما الاستحالة موكدة.. ويوقع الناس في حرج.. والحرج مرفوع دينا.. ويحاول محو (الحكمة) من وراء تعدد الناس وتناسلهم وتكاثرهم، لأن ضغط عقول الناس في عقل واحد ينبثق من (فرضية التكرار العبثي) في خلق الناس، بمعنى أن خلق بلايين الناس في كل العصور المتعاقبة ليس له حكمة، ولا معنى سوى التكرار المجرد المطلق.. وهذه فرضية تنسب إلى الله العبث: تعالى عن ذلك علوا كبيرا.. أما الجواب عن السؤال الآنف بـ(لا): لا يمكن ضغط عقول جميع الناس في عقل واحد، فإن (لا) هذه توكد حقيقة كونية علمية واقعية راسخة وهي: تعدد عقول الناس وتنوعها: بحسب تعدد أفراد الجنس البشري: لا يُستثنى من ذلك إلا المجانين، والذين يَطّوعون بإلغاء عقولهم أو تعطيلها.. وينبثق من حقيقة تعدد العقول: حقيقة تنوع الأفكار والأفهام.. ففي داخل الإطار الواحد: تتنوع الرؤى، وتختلف وجهات النظر في قضية واحدة: تحتمل الاجتهاد والنظر، فعلم الناس متفاوت الكم والدليل، وفهمهم متفاوت في التصور والحكم)).. ومن أسطع البراهين على ذلك اختلاف داود وسليمان - عليهما السلام - في فهم قضية واحدة: ((وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما)).

إن المطلوب - بلا بطء - هو استبحار الاجتهاد حتى يتدفق أنهارا بالفقه الجديد المنير، وحين يستبحر الاجتهاد يقع (الخلاف النوعي الموسع) بلا ريب، وهو خلاف مرحب به: بقوة واستبشار وفطنة ورجحان عقل. فقد قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: ((ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان في سَعَة)).

لأجل ذلك كله نرفع أصواتنا ونقول: حي على الاجتهاد.. ليكن الاجتهاد وليستبحر، وإن أثمر اختلافا.. فمرحبا بثمرات اختلاف العقول وتنوعها: في دين الله، ودنيا الناس.