زلزال هايتي والدور الأميركي

TT

الزلزال الذي ضرب بورت أوبرنس، عاصمة المستعمرة الفرنسية السابقة هايتي، هو السلسلة الأخيرة في حلقة من النحس الذي مني به أهل نصف هذه الجزيرة المنكوبة (النصف الآخر جمهورية الدومينيك التي تحصل على دخول عالية من السياحة وتتمتع بنظام أفضل)، من سلسلة انقلابات عسكرية وتوالي الحكومات الديكتاتورية، وهي مثل أي ديكتاتوريات خبرها القراء الأعزاء، تنهب ميزانية البلاد والدخول والإعانات التي تقدمها دول الغرب الصناعية، وتحولها إلى الحسابات الخاصة في سويسرا وشراء عقارات للزوجة الثانية أو العشيقة للتسوق في عواصم أوروبا.

وأذكر القراء بمقالتي الأسبوعين الماضيين لعلاقتهما بموضوع اليوم، أي معاناة الفقراء بسبب حكومة فاسدة أو خرقاء التصرفات، ومدى دعم من يسميهم البعض «الاستعمار العالمي»، و«الغرب الصليبي».

تضمن المقال الأخير أرقام ونصوص اتفاقيات قانونية ووقائع أصبحت حقائق على الأرض، وطلبت من المنتقدين الإشارة لأي خطأ قانوني أو مخالفة للحقائق على الأرض أو أرقام أو تواريخ خاطئة.

أغلبية التعليقات على المواقع، وفي مقدمتها «الشرق الأوسط»، وعلى بريدي الخاص، أصرت على خرق القانون ونقض الاتفاقيات مع غير المسلمين لصالح مسلمي غزة!

ولا جدوى من الجدل في إطار القانون إذا لم نعترف بالقوانين والاتفاقيات أصلا، ولذا سأتناول زلزال هايتي من زاوية وقائع نقلتها الفضائيات، التي يبدو أن معظم المطالبين بخرق القانون، يستقون معلوماتهم منها.

أثبتت استجابات العالم لكارثة زلزال هايتي أنه لا يمكن إنجاز أي عملية إنقاذ على نطاق واسع عقب كارثة طبيعية أو ما شابهها دون التدخل الفعلي للولايات المتحدة الأميركية.

فبعد دقائق من الزلزال وتهدم كل شيء تقريبا في عاصمة هايتي وانهدام أرصفة الميناء والمخازن والأوناش، اتضح انعدام وسيلة نقل المعدات الثقيلة اللازمة لرفع الأنقاض لإنقاذ الضحايا الذين لا يزالون على قيد الحياة، واستخراج جثث الموتى حتى لا تنتشر الأوبئة، ولم تكن هناك إدارة أو وسائل تكنولوجية لإعداد المطار لاستقبال طائرات المؤن والخيام والبطاطين. في اليوم الأول كانت إدارة الرئيس باراك أوباما أول من يتحرك عمليا وليس بالأقوال والشعارات.

تحركت الفرقة 82 المحمولة جوا (وهي التي أنشأها الرئيس الراحل رونالد ريغان باسم قوة التدخل السريع) لتتولى تشغيل مطار هايتي.

ومن زار بورت أوبرنس، يعرف أن المطار عبارة عن ممر واحد تتفرع نهايته إلى مساحة مرصوفة، ويستخدم للهبوط والإقلاع ولتحميل وتفريغ الطائرات. أي لا يوجد مكان عمليا لأكثر من أربع طائرات على الأرض، وواحدة تقلع أو تهبط.

ولولا وصول طلائع الفرقة 82 ما كان المطار ليعمل ويستقبل العشرات من طائرات محملة بفرق الإنقاذ المتخصصة من جميع أنحاء العالم، خاصة العالم المعروف «بالصليبي الاستعماري» في قاموس الفضائيات القومجية والتكفيريين، بمصاحبة كلاب متخصصة بحاسة الشم القوية في التعرف على أماكن احتباس المفقودين في جيوب هوائية، وتحمل أحدث أجهزة الاستشعار سواء بموجات التسمع الصوتية أو قياس الأشعة الحمراء وموجات الحرارة المغناطيسية التي تعكسها الأجسام الحية.

كان لإنقاذ أطفال مضى على بقائهم تحت الأنقاض ثمانية وتسعة أيام بلا طعام، تأثير خاص، حيث انخرط رجال ونساء فرقة الإنقاذ في بكاء الفرحة وعناق بعضهم البعض والأهالي.

المشهد الآخر كان وصول أول طائرة أميركية تحمل الأطنان من زجاجات مياه الشرب النظيفة والأدوية والأغذية، ووقف الجنود في طابور يفرغونها، وأحدهم الرئيس السابق بيل كلينتون يرفع بيديه كارتونات زجاجات المياه وهي ليست بوزن هين على رجل في عمره.

انسداد الطرق في المدينة المهدمة، بالأنقاض، واستحالة مرور شاحنات النقل وسيارات الإسعاف، أدى إلى الاعتماد على طائرات هليكوبتر الفرقة 82، والتي تبعتها حاملة طائرات استخدمت كمطار طوارئ تقلع منه طائرات الهليكوبتر على مدى الـ 24 ساعة دون توقف في نقل المعدات والمؤن والوقود والأدوية، والمصابين إلى مستشفى عسكري بحري ضخم في سفينة عملاقة وضعته البحرية الأميركية تحت تصرف الصليب الأحمر الدولي.

وصول أطباء الجيش الأميركي أنقذ مئات الجرحى من فقدان أطرافهم. ففي الساعات الـ 36 الأولى اضطر الأطباء المتواجدون في بورت أوبرنس، من مختلف الجنسيات، إلى بتر أذرع أو أرجل عشرات من المصابين لإنقاذ حياتهم وإيقاف النزيف. وبعد وصول أكثر من مستشفى ميداني، توالي - بعد تمهيد الأميركيين المطار، وإيجاد حاملة طائرات وإصلاح جانب من الميناء - وصول مستشفيات ميدان وطائرات الأطباء من مختلف البلدان الأوروبية، في مقدمتها بريطانيا، وإلى جانب تبرع الحكومة بـ 20 مليون جنيه جمعت الهيئات الشعبية والمؤسسات الخيرية البريطانية 38 مليون جنيه من التبرعات الشعبية حتى ظهر الخميس مع استثناء مشتريات الجمعيات المساهمة في عملية هايتي من دفع 17.5% ضريبة القيمة المضافة.

وباستثناء مؤسسة المواساة الإسلامية البريطانية لم نسمع الكثير عن مساهمة محسوسة من بلدان «المؤمنين» مقارنة بمشاركة «الكفار» غير المسلمين.

الملاحظ أن المبادرة الأميركية بالتدخل السريع المباشر - دون انتظار الطلب العالمي - بقيادة الرئيس باراك أوباما، تكرار لرد فعل إدارة الرئيس جورج بوش بالتدخل بإمكانيات أساطيلها لتقديم المعونة والدعم لضحايا موجة التسونامي التي سببها زلزال في جنوب شرق آسيا قبل سنوات.

صلب الموضوع أنه لولا المبادرة الأميركية في الحالتين، لما تمكنت بقية فرق الإنقاذ والمنظمات والوكالات العالمية من الوصول في الوقت المناسب لمساعدة الضحايا والمنكوبين. فقد أثبتت التجارب العملية أن أي عمل عالمي سواء تجاه كارثة من صنع الطبيعة أو صنع الإنسان أو لفرض السلام يصعب أن يكتب له النجاح ويكون له أي تأثير، خاصة من ناحية التوقيت، ليس فحسب دون مساهمة أميركية، بل دون قيادة أميركية ومبادرة أميركية، بحيث تكون المساهمة الأميركية العمود الفقري للعمل ورأس حربته، سلما أو حربا مثلما رأينا في حرب تحرير الكويت أو في الحرب على الإرهاب في أفغانستان.

قارن ذلك مثلا بأول اجتماع للمجلس الخارجي للاتحاد الأوروبي، بعد التدخل الأميركي بخمسة أيام بينما لم نسمع من التجمعات الإقليمية الأفريقية أو الشرق أوسطية عن النية ولو في إرسال بضع علب من أقراص الأسبرين!

أما انتقادات وزير الدعم الدولي الفرنسي للأميركيين بأنهم «احتلوا» هايتي، فهي من نوع البلاء المضحك؛ فلو كان في هذه المستعمرة الفرنسية السابقة بترول أو معادن أو صناعات متقدمة مربحة، أو حتى اقتصاد يسمح بسوق لترويج المنتجات، ما كانت بلاده قد جلت عنها أصلا.

وهذا ما يذكرني بقول الرئيس الأميركي السابق جورج وبوش - رغم أنه لم يعرف عنه سرعة البديهة أو البلاغة كخليفته أوباما أو كتوني بلير - عن الفرنسيين «إنهم أول من تجده بجانبك عندما يحتاجون إليك!».