حسن ساتي في حضرة الذكرى

TT

تعودنا أن نكتب كلمات تأبينية في اليوم الأربعين من وفاة من يغادرون حياتنا إلى العالم الآخر أو في الذكرى المئوية لرحيلهم، هنا أقف حائرة؛ فبي رغبة للكتابة عن الصحافي حسن ساتي الكاتب في «الشرق الأوسط» رحمه الله.. في وقت قد لا يتطابق مع الذكرى السنوية لرحيله، فهل أسوغ لنفسي الخروج عن النمط المعتاد والرسميات التي عادة ما تخلو من لحظة عصف ذهني وعاطفي قد تقودنا بمهارة أكبر للحديث عمن نشعر فعلا بفقدانهم؟ أفتقده.. نعم وكثيرا، وأدين له بالعرفان والجميل الذي كان بعد ذلك سببا لأتوقف عند جماله الروحي وإنسانيته العذبة وفكره المتقد.. ما حدث جعلني متابعة لكل ما يكتب لأتعلم بدوري فن التعامل واستدراج الآخرين للإبداع ولعالم نقي.. ما كان بيني وبين الرجل من ود تواصل جعل لـ«الشرق الأوسط» مكانة تفوق التي كانت عليها قبل أن يكون ساتي سببا في مصافحتي لفضائها ولعالمها الذي أصبح كقهوة الصباح اليومية..

وظلت «الشرق الأوسط» نافذة أعانق من خلالها فكر مبدعيها ومنهم حسن ساتي.

ربما كانت مصادفة وقت هاتفت مكتب الصحيفة في لندن لأنشر مقالي «الماغوط في عربات الريح» لأنني أدركت وقتها أن فضاء «الشرق الأوسط» هو الأرحب، حيث يتسع الكلمات وما وراءها وجنوني وما أفيض به من حزن جرّاء رحيل هذا الشاعر المجنون الذي من أروع ما كتبه «سأخون وطني».

ربما كانت مصادفة أو لأنه الشخص المسؤول الذي وصلني مأمور الهاتف به )أقصد حسن ساتي)، وقد تواصلت معه بعد ذلك فكان السبيل لتصافح مقالاتي قرّاء «الشرق الأوسط».. كان رأيه جميلا ومحفزا للإبداع، وكنت أتناقش معه على عجل بسبب انشغاله الدائم حول رأيه واستحسانه لما أكتب وبأسلوب كما قال نحن في أمس الحاجة إليه.. الكتابة الصحفية بحس الأدب والشعر وبفائض من الأحاسيس الصادقة.

ولم أستغرب بعد ذلك رأي مجايليه من الصحافيين والنقاد في الخرطوم، إن ساتي هو من أدخل الأسلوب الشاعري في كتابة التحليل السياسي «وأنه كان لا يتردد في إيراد أبيات من الشعر في التحليل السياسي، فيما كان يبدو ذلك غريبا لدى الكثير من الصحافيين في ذلك الوقت، ولكن فيما بعد سادت الفكرة وأصبحت ما يشبه المدرسة في الكتابة السياسية في الصحف السودانية». ولأن تواصلي مع ساتي كان عبر بدالة «الشرق الأوسط» في لندن فقد وجدت ذات صيف،

وهروبا من زحمة عملي الإعلامي المرئي، فرصة تفرغي لأصر في طلب تحويلة هاتف مكتبه الذي كان في الآونة الأخيرة يرن بلا أن يستجيب حسن، وإذ بالرجل يجيب ويبدأ بالحديث عن تعبه ومرضه وأخبرني بالعملية التي سوف تشغله قليلا عن الصحيفة.. أدهشني الخبر ولم أتحدث بشأن نشر مقالي القادم، كان الحديث منصبا على بعض الكلمات التي ربما قد تشد من أزره وتبعث فيه بعض القوة لتمنحه التغلب على المرض. لم أكتب أو أتخيل السيناريو الأخير لفراقه.. جاء مفاجئا رغم احتماله.. قاسيا رغم إيماننا بقدر الله.. مفجعا لفقدان فارس «الشرق الأوسط».. ابن السودان الذي كان قدره أن يغادر الحياة ويلفظ أنفاسه الأخيرة في حضنها ليقهر ضباب لندن بشمس وطنه وبصحيفة «آخر لحظة» التي قبل أن يغادر الحياة بساعات كان كتب آخر كلماته لتنشر فيها صبيحة اليوم التالي لموته.

إيه يا حسن.. بعد نعيك.. من سأسلم هذا المقال ليجد له فسحة من نور على صفحات «الشرق الأوسط» التي لم أقصد يوما فيها أحدا سواك؟! من سأحكي معه عن عضة النبض في أوردة قلب غيب الموت صاحبه، الذي وإن غاب بقي ذكره، وكل الحنين إليه الذي قادني هذه اللحظة لأكتب عنه وفاء وشوقا.

كيف يا ترى أخرج من معتقل الغياب لأذكر هذا المعتقل السياسي الذي لم ييأس يوما من كل ما عاناه.. ودأب على الكتابة والإبداع في كل حقل خاضه.

كلما تصفحت «الشرق الأوسط» أذكر أنني من خلالها التقيتك وتعرفت إليك كاتباوإنسانا ومبدعا، فاعذروني لمّا ساقني ما أثارني لأقلب المواجع كما يقال وقبل الذكرى الرسمية لرحيله. وداعا حسن ساتي .. وداع الجسد، وبقاء الروح والفكر الذي هو كالسنابل.. في كل سنبلة مائة فكرة.

*مستشارة في القناة الثقافية - وزارة الثقافة والإعلام السعودية