بروس ودروس!

TT

زار الكويت قبل أيام المستشرق البريطاني المعروف البروفسور بروس انغهام، وهو متخصص في اللغة العربية ولهجاتها، وبالذات اللهجات القبلية التي تتكلم بها قبائل شمال الجزيرة العربية.

بروس انغهام ظاهرة لغوية متميزة، فهو يتقن العربية بلهجة قبيلة الظفير كما لو كان من مواليد «الصفيري» شمال مدينة حفر الباطن بالمملكة العربية السعودية، ويجيد العربية كمن عاش طيلة حياته بين الناطقين بها. إلى جانب اهتمامي كلغوي، فإنني أكنّ احتراما أكاديميا خاصا لمن تخصص في اللغة العربية وأجادها، ولعل دافعي لهذا الاحترام هو احترامي لأصحاب التخصص من جهة، ولحبي للعربية من جهة أخرى، ومن يتخصص بها لمعرفتي بصعوبة تعلمها لأبنائها، ناهيك بمتعلّميها. وتزداد صعوبة تعلم لغة ما ببُعد تلك اللغة عن لغة المتعلم الأم، بمعنى أنه كلما قربت اللغة المراد تعلمها من اللغة الأم، كان تعلمها أسهل، نظريا.

والعربية بعيدة «جينيا» عن الإنجليزية، اللغة الأم لبروس انغهام. وقد حكى لنا قصة تعكس مدى اندماجه وإجادته للهجة الظفير: دخل ضيف بمضيف بن سويط - أمير قبيلة الظفير - وكنت جالسا وحدي أقرأ كتابا، فجلس بجانبي بعد السلام علي، وقمت أصب له القهوة العربية لأنه لم يكن أحد موجودا، وعدت إلى القراءة بعد حديث مقتضب معه، ثم دخل «معزّبي» بن سويط وسلّم علينا وسأل الضيف إن كان قد «تقهوى»، أي شرب قهوة، فقال له الضيف: نعم، قهواني (صب لي القهوة) الغليّم هذا، مشيرا بإصبعه إلي.

قضى بروس سنوات طويلة من حياته يدرس اللغة العربية ولهجاتها المختلفة، بدأ تلك المسيرة بدراسة العربية - الأفغانية التي يتكلم بها قرابة عشرين ألف شخص في قرى متناثرة بالقرب من مزار شريف. ويقول هؤلاء العرب عن أنفسهم إنهم هاجروا مع الفتوحات الأولى للإسلام وبقوا حتى اليوم محتفظين بلغتهم العربية على الرغم من دخول الكثير من الكلمات الفارسية والبشتوية والهندية عليها.

كان المستشرقون ثروة لا تقدر بثمن، وإضافة هامة للتعريف بعالمنا، وسفراء لثقافتنا يعملون على شرحها وأنسنتها لدى شعوبهم. وقد عجّت أدبياتنا بالتعميم باتهام المستشرقين بالجاسوسية، وهي تهمة لا ينفيها بعضهم، ولكن حتى بعض هذا البعض من هؤلاء كانوا إضافة إيجابية لقضايانا، فمن منا ينسى لورنس العرب الذي نقل صورة للعرب مغايرة لما صورها المستعمرون العنصريون؟ وكان فيلم «لورنس العرب» (LAURENCE OF ARABIA) علامة في رسم صورة العرب النمطية من خلال هوليوود قبل تسييسها وهيمنة اليمين المادي المتخلف عليها.

ومن ينسى الرحالة فيسكر الذي عرف باسم «مبارك لندن»، وما سجله من صور خالدة لقبيلة آل مرة وصحراء الربع الخالي؟ بل إن كثيرا من هؤلاء المستشرقين كتبوا تاريخنا الحديث، وسجلوا أحداث تاريخنا بموضوعية أكثر مما كتبناها نحن. فمن لوريمر إلى ديكسون، بل وانتهاء بفرانك غاردنر - مراسل الـ«بي بي سي» وعاشق الثقافة العربية - الذي أشرف على الموت وبقي مقعدا حتى اليوم برصاص إرهابي بمنطقة السويدي بالرياض قبل أعوام قليلة.

لقد خلّد المستشرقون بعدساتهم صورا لمنطقتنا، وأرشفوا حقبا من ذلك التاريخ عبر كاميرات وعدسات ومذكرات الرحّالة المستشرقين، عاشوا في الصحراء، وارتحلوا مع البدو الرحّل، ودونوا عادات وتقاليد اندثرت وأصبحت أثرا بعد عين. لكنّ أولئك المستشرقين في طريقهم إلى الانقراض، وبدأوا بالتلاشي مع انفتاح العالم، وثورة المعلومات، وسهولة التنقل والوصول إلى أقسى بقاع العالم تضاريس ومناخا، وأصبحت المعلومة متاحة، وتصوير الصحراء ومن عليها أصبح يتم من السماء، ولم يعد بحاجة إلى من يتكبد عناء الترحال ومشقة الاستشراق.

لقد كانت مذكرات وكتب أولئك الرواد من الرحالة سجلا لمنطقتنا في وقت لا نزال نزيّف فيه وقائع حاضرنا، وسيأتي اليوم الذي يعطى أولئك المستشرقون حقهم في الاعتراف بفضلهم.