هل نصالح الماضي أم ننساه؟

TT

لا يمكن لأي أمة من الأمم أن تبدأ بداية جديدة وأن تتطلع إلى المستقبل ما لم تتفق على تعريف الماضي، فالماضي حاضر فينا ومشكّل لأذهاننا ولطريقة إدراكنا لذاتنا الجمعية، وبالتالي لهويتنا وموقعنا تجاه الآخرين، ولذلك يستعصي علينا أن ندعي مصالحة أو وحدة أو تجانسا ونحن نقارب الماضي بنسخ متصارعة عن ماهيته. ويتفق معظم الدارسين لتكوين الهويات الاجتماعية على أنها بحاجة إلى أن تستند على قراءة معينة للماضي تمنحها الوحدة والشعور بالتواصل. وإحدى أكبر معضلات العراق اليوم من أجل إعادة تشكيل هويته الوطنية هي أننا لا نتفق على قراءتنا للماضي قريبه وبعيده، وليس لدينا سوى نسخ منسوجة بوحي من مركزية إثنية أو طائفية أو آيديولوجية، كل منها يقوم على فكرة أننا الضحية والآخر هو الجلاد، وفيها جميعا يكون هذا الآخر شريكا داخل حدود الوطن، وبالتالي فإن كل نسخة تبني قراءتها للماضي ومنظورها للمستقبل على شيطنة هذا الآخر وعلى تخوينه، بل على ضرورة القضاء عليه، ومن هنا تجد أحيانا كتابات صحفية وإنترنتية يكتبها أنصاف متعلمين وتعليقات لقراء شبه أميين عن أن العراق يجب أن يتخلص من أكراده أو من عربه أو من سنته أو من شيعته ليكون أفضل، وهذا النوع من الخطاب الذي سيتهم صاحبه بالعنصرية والتمييز لو كان في بلد غربي ويقتاد على أثره إلى السجون وينبذ في الغالب من محيطه الاجتماعي، يبدو للأسف مقبولا، بل يتبناه أشخاص لهم حضور اجتماعي وسياسي بشكل يجعلنا نتفهم حكمة من يرى أن هذا الجزء من العالم يجب أن يخلو من أسلحة الدمار الشامل، لأنه الجزء الوحيد الذي يبدو فيه استعمال هذه الأسلحة، من أجل تحقيق حلم متعصب قومي أو طائفي أو ديني، واردا.

وإذا كان الحال كذلك علينا الإقرار بأن كل النسخ المتوافرة لدينا عن الماضي هي نسخ إقصائية، لا تؤسس تصالحا مع الآخر الشريك في الوطن، وبالتالي لا تبني وطنا بقدر ما ترسخ مشاعر قائمة على الخوف والكراهية والرعب من الإبادة، وهي شبيهة بتلك المشاعر التي نجحت الحركة الصهيونية في توظيفها لخلق خطر اللاسامية وبالتالي لإنتاج أسطورة الضحية التي يتربص بها العالم، والتي لم يخدمها شيء قدر خطاب المتطرفين عن ضرورة إبادة اليهود ورميهم في البحر، فالأساطير المؤسسة على فكرة الضحية بحاجة لأعداء غوغائيين كي يغذونها. في حالة العراق أصبح النفخ في الكراهية وفي أقاصيص الضحية والشيطان بضاعة تنفق عليها الملايين ليس في داخل العراق وحسب بل عبر المنطقة، حيث صار الكثير من غير العراقيين مولعين أيضا بتقديم نسخهم عن العراق، وبإعلان أحكام ومواقف لا تسهم إلا بتأجيج المزيد من الكراهية والتخندق المقابل، حتى بات جليا أن الصراع داخل العراق، وبين أبنائه، يبدو ضرورة إقليمية تدحر تماما الدعوات القائلة بأننا نريد عراقا موحدا مستقرا، وإن صحت فإنها تعني عراقا مستقرا على هيمنة واحدة من القصص الإقصائية على غيرها، وبالتالي غلبة موقف معين من الماضي يتبناه فريق معين دون آخر، وهذه الوصفة ليست سوى إعادة إنتاج لذات الصراع بأشكال مختلفة، فمعضلة العراق هي معضلة الهوية الوطنية وهي لن تنتهي قبل أن يحلها العراقيون، وهي لن تحل قبل أن تستبدل نسخة جديدة يقبلها الجميع بالنسخ الإقصائية المتوافرة عن الماضي. من هنا يقول البعض إن الشعوب التي ليس لديها ماض تتفق عليه يجب أن تبتكر ماضيا بديلا يمكن الاتفاق عليه.

لقد حصل في العراق الكثير من القتل والمآسي التي كان يمكن أن نتجنبها لو أدركنا أن أي قصة عن الماضي لا يمكن أن تنتصر إذا ما فرضت على الآخر، فأنت يمكن أن تقمع الإنسان وتمنعه من البوح بما يعتمل في ذهنه، لكنك لا تستطيع إجباره بالقوة على التفكير بطريقة مختلفة، وقد جربنا هذه الوصفة إبان النظام السابق الذي تبنى حلا بسيطا للواقع التعددي في العراق، يقوم على منطق القوة وعلى سحق كل من يجاهر بتبني رؤية مغايرة لرؤية النظام، فهل نجحت هذه السياسة في إنتاج هوية عراقية جامعة وموحدة وغير إقصائية، أم أنها أنتجت هويات متصارعة خائفة من بعضها تلوذ بالأجنبي لحمايتها؟ وأمام هذا الحال يبدو العراق اسما لمجتمع مفكك تتفاعل فيه الكثير من الهواجس والصراعات والمخاوف التي تغذيها نخب سياسية وإعلامية امتهنت التكسب من الخوف والكراهية والإقصاء. إن الحل الذي لم يَنجح زمنَ النظام السابق لن ينجح بعده، والاستقرار الذي يفرض عبر الإرهاب والقتل والإعدامات الجماعية هو استقرار هش، سينهار كبيت من الورق أمام أي عاصفة كبرى ليكشف الغطاء عن جموع استمكن منها الخوف وتسربت إليها الكراهية وتشبعت بالشك، والخائفون هم وحدهم الذين يرتكبون الإقصاء، ويمارسون العنف بأبشع صوره، ويقتلون لأنهم لا يملكون حلا يقوم على معايشة الآخر.

الحديث في الماضي غير مجد كثيرا لبناء حاضر مختلف، لن نتفق على من ضحى أكثر، ومن ناضل أكثر، ومن عانى أكثر، لا يمكننا أن نتفق إلا على أنه كان ماضيا سيئا عانيناه جميعا، وأن علينا بدل أن نُقْصيه مجددا في كل يوم، أن نطويه بحاضر مختلف يكون الحديث فيه عن المستقبل، من دون ذلك فإننا نعيد إنتاج ذات التراجيديا باختلاف في التفاصيل.