السد العالي شاهد سياسي

TT

منذ خمسين عاما بدأ مشروع السد العالي، إحدى أهم الأفكار السياسية في عهد النظام المصري الجديد تحت عبد الناصر الذي مر عليه في حكمه ثلاث سنوات، وأنجزه أخيرا في السنة التي توفي فيها عام 70. والسد، كما يعرف من اهتم بقراءة التاريخ العربي، هي قصة النظام، ويختصر قصة الصراع الدولي. فالأميركيون كانوا راغبين في تمويله مع البريطانيين بربع مليار دولار، وبسبب صفقة أسلحة تشيكية، بترتيب سوفياتي، أبرمها عبد الناصر غضبت لندن وواشنطن، وزاد العلاقة توترا اعترافه بالنظام الشيوعي في بكين. وتوافق تحول عبد الناصر من الغرب إلى الشرق في عام 55 مع فترة نزاع القاهرة مع حلف بغداد أيضا. السد جعل عبد الناصر سوفياتيا وصار حليفا أساسيا للمعسكر الاشتراكي.

السد العالي ليس أقدم السدود ولا أكبرها، حيث يأتي ترتيبه الثامن والعشرين بين سدود العالم الكبرى، حتى سد الثورة السوري يصنف أكبر منه. وطاقة السد العالي تبلغ 43 ألف متر مكعب من المياه مقابل أربعين مليون متر مكعب هي طاقة سد الصين العملاق. لكن أهمية السد في قصته السياسية أكثر مما هي في هندسته أو تأثيراته الاقتصادية التي لا شك في أهميتها وإيجابيتها. وسبق أن وقعت على مراسلات أميركية سرية، متاحة اليوم للاطلاع العام، كتبت في أواخر عام 1955. بينها مذكرة تحذر من النشاط الصيني السوفياتي في عدد من دول العالم، وتخص بالاهتمام مصر التي لم تتحول بعد إلى المعسكر الشيوعي. وفيها تشير إلى مشروع السد العالي الذي يساوم عليه السوفيات ويعدون بتمويل بنائه، ضمن نشاطات اقتصادية أخرى، بينها صفقة أسلحة مقابل شحنات من القطن المصري. لكن يبدو أن التحذيرات لم تحظ بانتباه الحكومة الأميركية وبسببها تحول عبد الناصر وصار اشتراكيا ولعب رأس حربة في المشروع السوفياتي في منطقة الشرق الأوسط. وتشير المذكرة إلى أن النشاط الصيني السوفياتي لم يكتف بنشاطه في أوروبا الشرقية واختراقه مصر وأفغانستان بل له نشاط في الأردن والسعودية وغيرها.

وعبد الناصر كان يحتاج إلى نجاح ما، إلى ما هو أكثر من قناة السويس التي شقها الفرنسيون بطول مائة وتسعين كيلومترا منذ 97 عاما، وبقي في الامتياز سنتان فقط عندما قرر عبد الناصر تأميمها، وهو المبرر الذي استخدمته الدول الثلاث ذريعة لشن العدوان الثلاثي. قرار الرئيس الراحل إلغاء العقد قبل عامين فقط من نهايته جعله يبدو مثل الباحث عن مواجهة شعبية.

الفارق أن السد العالي يمثل قصة نجاح، أما السويس فكانت قصة خلاف. والسد هو شاهد على تاريخ العلاقة مع السوفيات التي استمرت طوال حكم عبد الناصر. والسد هو البناء الأهم في التاريخ الناصري، ولا خلاف على أنه مشروع إيجابي من موسكو خاصة أنها خذلت المصريين في معاركهم مع الإسرائيليين. حيث لم يعرف من السوفيات سوى استخدامهم للمصريين في حروبهم بالوكالة في المنطقة العربية والأفريقية، ونشر أسلوب القمع الأمني وبناء السجون وإلغاء الحريات التي كانت تتمتع بها القاهرة سياسيا وإعلاميا قبل الثورة.

ومع أن السد كان جزءا من الدعاية، فإنه يستحق المفاخرة به. فنهر النيل، أطول الأنهار في العالم، بقدر ما كان يمثل الحياة للمصريين، كان أيضا مصدر الخوف والموت المستمر بسبب فيضاناته. سعى الشيوعيون للتقرب من حلفائهم أولا عبر المشاريع الاقتصادية. حذرت المذكرة أنه رغم تواضع المساعدات السوفياتية مقارنة بمساعدات واشنطن ولندن، يبقى هدفها بعيدا وسياسيا لربط هذه الدول بموسكو بشكل دائم. والتاريخ طبعا يؤكد ذلك، فقد بقي السد العالي في أسوان شاهدا على العلاقة مع موسكو إلى اليوم.

[email protected]