بيدبا وباراك وأنا

TT

نفضت الغبار مؤخرا عن نسختي من كتاب «كليلة ودمنة» فسحبني الفيلسوف بيدبا، مؤلف الكتاب، إلى ثقافة رد الملوك إلى فعل الخير ولزوم العدل.

والحقيقة هي أنها ثقافة بعيدة عن مدار قدراتي، التي اقتصرت على رد أحبائي عن القسوة والتشاؤم وبعض أنواع الظلم، بالإقناع إن استطعت إلى ذلك سبيلا.

ولكن اعترافي بمثل هذا القصور في القدرات لم يمنعني من الإعجاب بالفيلسوف بيدبا. وحاولت قدر استطاعتي أن أحدد له موقعا في عالم اليوم، فهو الفيلسوف الحكيم الذي ركب الأهوال لكي ينال من الرغائب ما أصلح به شأن ملك طغى وبغى، وشؤون رعية عاشت في ظل خوف مقيم. وخيل إليَّ أن مثل هذا الفيلسوف، الجامع بين العلم والحكمة والعفة والعدل، لم يعد له وجود في زمن التخصص، وأننا اكتفينا بلقب المثقف، نسبغه على من يحبون الكتب والموسيقى والفنون، وتركنا ما دون ذلك في أرض لم نرسم لها حدودا.

الفيلسوف بيدبا وضع كتابه لكي يهدي به ملكا اغتر بالملك، واستصغر أمر رعيته. وحين قصد بابه صارحه بأنه جاءه ناصحا له مشفقا عليه، فما كان من الملك إلا أن أمر بإعدامه صلبا، ثم تراجع عن حكم الإعدام واكتفى بحبسه. وحين ذاع خبر حبسه، تفرق تلاميذه ولاذوا بالهرب. ولم ينقذ بيدبا من سجنه إلا أرق أصاب الملك حين استعصى عليه فهم دورة الكواكب والنجوم، فأرسل في طلب بيدبا، وأمره بأن يعيد عليه ما قاله من قبل. ولما تخلص الملك من غضبه، استعذب ما قاله الفيلسوف، وقرر أن يعمل به. وبدلا من حبسه، جعله وزيرا ومستشارا.

دعتني قراءة «كليلة ودمنة» إلى التفكير في أحوال المثقفين هذه الأيام. الغالبية العظمى تفضل السكوت، وتكتفي من العفة بالابتعاد عن مؤسسات الحكم ومخصصاتها. وبالإضافة إلى ذلك، ينظر المثقف إلى عامة الناس بعين الترفع والازدراء، ويشبههم بالقطيع.

قد أكون جائرة في حكمي، ولكن يخيل إليَّ أن الثقافة مسؤولية، وأن المثقف مطالب بتسديد ديونه للمجتمع الذي أنشأه وعلمه، وأفرد له خانة مميزة، فهو أقدر الناس على تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة، ومن واجبه أن يوظف ما أوتي من علم في وصف المسار وذكر الأسباب التي تجعل العدل مفضلا على الظلم، والوطنية مفضلة على التبعية، وفي إقناع العامة والخاصة بوجهة نظر تحقق مصالح الحاكم والمحكوم في آن واحد.

تراءت لي الوجوه التي تظهر على شاشات التلفزيون، والأصوات التي تعلو فتخاطبنا من وراء حجاب اسمه إيثار السلامة واختزال المعلومات وتحاشي المحظورات. وقد تحول الحوار إلى خناقات حامية وتراشق بالألفاظ وتبادل اتهامات لا يكسب المشاهد من ورائها شيئا.

كتاب «كليلة ودمنة» يذكر فضل العالم الحكيم على الحاكم. فإذا كان للحاكم فضل في الملك، فإن للحكيم فضلا أعظم، لأنه غني عن الحاكم بالعلم، وليس الحاكم بغني عن الحكيم.

بعد العفو عنه، جمع بيدبا تلاميذه، وقال لهم إن للملوك سورة، والملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء.

حين وضعت الكتاب جانبا، تمنيت أن يصبح «كليلة ودمنة» جزءا من المقررات الدراسية في المدارس، وتمنيت أن أرسل رسالة إلى كل ملك أو رئيس، وخصوصا إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما، أقول فيها: «قل لي من مستشارك، أقل لك من أنت!».