ماذا تريد دمشق حقا من وليد جنبلاط؟

TT

«الكراهية تحتّ حتى الإناء الذي هي فيه محفوظة»

(مثل صيني)

وسط كل «القال» و«القيل»، يبدو أن ثمة شبه إجماع على أن زيارة الزعيم اللبناني، وليد جنبلاط، إلى العاصمة السورية (دمشق) غدت حتمية.

فالجهات الساعية إلى إذابة الجليد، وإعادة وصل ما انقطع، متعدّدة، ومتباينة الأهداف والمنطلقات، لكنها متفقة، حتى الآن، على أنه من المفيد للبنان في هذه المرحلة دفن العداء الشخصي المستحكم بين الجانبين.

هذا الكلام قد لا يعجب بعض المسؤولين في دمشق، الذين يرون أنه يوحي وكأن هناك توازيا أو تساويا - مرفوضا حتما - في المقامات والأوزان بين «قيادة تاريخية» في «دولة عربية كبرى».. وبين زعيم تقليدي لطائفة صغيرة العدد، في بلد «مصطنع» أصلا، و«لا حاجة لوجوده» أبدا، ولا مكان له في أدبيات «النضال القومي» و«الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة».

وعليه، إذا كان لبنان كله لا حساب له، ويمكن تسييره بـ«جهاز أمن واستطلاع» بصورة أفضل، ألف مرة، من سفارة لا محل لها من الإعراب، فكم بالحري بزعيم طائفة يقل حجمها عن 8% من سكان لبنان، وقد تعرضت منذ سنوات لعملية «استنبات» زعامات طفيلية بديلة، أوكلت إليها مهمة تشتيت الصفوف، وزرع الفتن، وإرباك الناس، وتيئيسهم.. تمهيدا لتهجيرهم، أو تجنيدهم.

هنا، الموقف السوري صحيح في شقه الاستراتيجي.

فالحكم في دمشق، عبر جيلين، حكم سورية بخلطة ذكية غريبة من العنف والدبلوماسية، وتعامل مع الخارج أيضا بخلطة أكثر غرابة، بين «الممانعة» و«الاعتدال المطمئن».. جعلته الصيغة المفضلة لكسب الوقت، وتوجيه الرسائل، وتبادل الخدمات بين الخصوم الكبار.

في المقابل، كان وليد جنبلاط، منذ البداية، في وضع استراتيجي صعب، وما كان له من وسائل القوة - أو بالأصح: الصمود - إلا التكتيك.

فبعد انهيار اليسار اللبناني، بفعل انهيار اليسارين العالمي والإقليمي، وأخذ الحرب الأهلية اللبنانية منحى طائفيا، انحسرت قاعدة جتبلاط السياسية الوطنية الموروثة، لتتركز، أكثر فأكثر، على طائفته الدرزية الصغيرة. وهذه رغم دورها التاريخي المميّز، أخذت نسبتها السكانية في لبنان تعاني ضمورا مستمرا، بسبب التسارع الأكبر في نسبة نمو الطائفتين المسلمتين الأكبر.. السنة والشيعة.

أضف إلى ذلك، أن السواد الأعظم من الموحّدين الدروز يعيشون موزعين في لبنان وسورية وفلسطين المحتلة. وكان هامش حرّيتهم في مجال التعبير عن النفس قد كبت طويلا في فلسطين المحتلة، بفعل طغيان ثقافة احتلال صهيوني غريبة عنهم، وأصبح ضيقا في سورية تحت رايات حكم «حزب قائد» يرفع شعارات القومية العلمانية. وهكذا، ما عاد لهم من متنفس سياسي غير لبنان.

وبالفعل، ظل لبنان المتنفّس الوحيد للموحّدين الدروز، على الرغم من كل مثالب طائفيته السياسية المكشوفة، التي أشعلت حروبا «أجّجها وغذاها الآخرون»، وأدّت إلى ما أدت إليه من انقسامات وتبدّل وتناوب في حالات هيمنة مستمرة حتى اليوم.

وكانت طبيعة التركيبة الاجتماعية والمؤسساتية داخل طائفة الموحّدين الدروز - على الأقل خلال القرن العشرين - قد كفلت للزعامة الجنبلاطية «أقوى الزعامات الإقطاعية في جبل لبنان منذ القرن الثامن عشر» حصة أغلبية داخل الطائفة. وبالتالي، غدا من صميم المصلحة الذاتية للزعيم الجنبلاطي - كائنا من كان - العمل من أجل «وحدة الطائفة»، والاستفادة منها لصالحه. غير أن هذه الحصة، الكبيرة أصلا، كبرت إلى حجم غير مسبوق في أيام الزعيم السابق، الراحل كمال جنبلاط، الذي صار، حتى اغتياله عام 1977، رقما إقليميا، ومكانة قومية مرموقة. وأخذ يشكل بمجرد وجوده الجسدي «حالة محرجة في كيان غير مقبول»، لا سيما، إذا قيّض لهذا الكيان لعب دور واحة الحريات، وحاضنة الفكر والتحرّر في المنطقة العربية.

إن اغتيال كمال جنبلاط، مع رسائل أخرى مشابهة استهدفت عدة زعامات لبنانية «كبرت» على حجم «القائمقائية التابعة»، المراد للبنان، أكّد لبعض الوقت وجود استراتيجية إقليمية يظهر أنها لا تزال موجودة. فبعد سنوات من إنهاك «التجربة الحريرية»، وابتزازها.. وصولا إلى تصفيتها عام 2005، كان أحدث الأمثلة وأسطعها إعادة تأهيل النائب ميشال عون، مدّعي أبوة القرار الدولي 1559، و«قانون محاسبة سورية»، لتوظيفه عامل إضعاف لمرجعية البطريركية المارونية في الساحة المسيحية اللبنانية.

واليوم، جاء الدور على الدروز. والواضح أن المطلوب من وليد جنبلاط، عمليا، أكثر وأعمق من الاعتذار. فالمطلوب:

تحوّله من زعيم سياسي إلى مجرّد نائب تابع، من أصل 128 نائبا، اعتاد معظمهم لفترة غير قصيرة على انتظار الأوامر على الهاتف.

تجرّده من قاعدته الطائفية، وتخليه عن نفوذه في طائفته، وتسليم زمامها إلى أزلام مَن قيل إنه وجّه إليه رسالة مؤداها أنه «أقوى منه بين الدروز».. مع أنه غير درزي طبعا.

سكوته عن تمزيق الطائفة، التي كان لها الفضل الأول في تأسيس فكرة لبنان، في القرن السادس عشر، وإعادة تقسيم مؤسساتها لتسهيل استغلالها، وتصفية حضورها الجيو - سياسي القوي في منطقة حسّاسة ومحورية من لبنان.

إقدامه على الانتحار سياسيا، كلاعب يتمتع بحد أدنى من التأثير في المعادلتين السياسية المحلية والإقليمية، لقاء لا شيء، لأن الثقة به كانت معدومة، حتى قبل 2005.

والأمر اللافت اليوم، أنه بينما تتلبّد الأجواء الإقليمية، وتتسارع الخطى المعلنة لفصل دمشق عن طهران، ينشط السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، في مساعي ترطيب الأجواء، وتهيئة مناخ المصالحة على خط دمشق - المختارة.

والسيد حسن يَعي أكثر من غيره مخاطر المجازفة بتفجير دروز لبنان من الداخل، بينما يعربد بنيامين نتنياهو، ويطرح بلا خجل خيارات «الترانسفير»، الذي يهدّد مصير نحو 120 ألف درزي، في شمال فلسطين المحتلة، في عداد من تبقى من فلسطينيي 1948.

ولهذا السبب، بارك الأمين العام «مصالحة الشويفات»، رغم تهجّمه الشخصي الحاد على جنبلاط؛ وهو التهجم الذي أعطى الضوء الأخضر لـ«أحداث مايو (أيار)» 2008، ومن ثم، أخذ على عاتقه مهمة الوساطة بينه وبين دمشق.

إن المخاطر الحائقة بالمنطقة، راهنا، غاية في الخطورة، والثمن المأساوي الأول ستدفعه الأقليات الدينية.

كل الأقليات الدينية، بلا استثناء.. فهل من يتّعظ ويتعلم؟