الجحيم الذي كان جنة

TT

كانت كينيا أحد البلدان التي حلمت بالإقامة فيها. ذهبت إلى نيروبي شابا في الثالثة والعشرين، وكانت هي شابة مزهوة باستقلالها وحريتها. والرجال الذين كنت أشاهدهم في الصور، شاهدتهم من مقعد في الصف الثاني، في سرادق الاحتفالات: دوق أدنبره، الذي ضحكت كشرقي وهو يقول «طلبت مني الملكة أن أبلغكم تحياتها»، فكيف يكون رجل بأمر امرأة؟. وجومو كينياتا، عملاق التحرير، الهادر الصوت، الأبيض اللحية، حاملا عصا كعبها من الفضة ورأسها ذنب حصان. وكان يلوح بها للناس ويهتف «هارامبي»، الحرية، فيهتف خلفه الألوف حتى تسمع جبال كليمنجارو. وتوم مبويا، نائبه، الذي كان جالسا بيننا، دون أن ندري أن نزاعا قد اشتد بين الرجلين، إلى بعد اغتيال الشاب مبويا، في ساحة نيروبي الرئيسية.

في تلك الساحة، الحديثة يومها، كنت أتمشى سعيدا، وأجلس في مقهى «فندق نيوستانلي» الذي بناه الممثل وليم هولدن. وكان جميلا أن تحادث جميع الناس في المدينة، فهم سعداء وطيبون وفرحون بالاستقلال. وبعد سنوات سألت صديقي الدكتور منصور خالد، الآتي من عمله في نيروبي إلى لندن. سألته عن المدينة، وعن فندق «غروفنر الجديد» على أحد تلالها، وعن بساطة الناس. ولم يُرد لي خيبة كبرى، فاكتفى بالقول «تغيرت نيروبي عن أيامك».

يرسم كتاب «حان دورنا أن نأكل» صورة مريعة «لأكثر الدول فسادا في أفريقيا الشرقية». يجني الكيني العادي 777 دولارا في العام، ويرغم على دفع 16 رشوة في الشهر، من الشرطي إلى طبيب الطوارئ. وقد دلت الأبحاث التي قام بها البنك الدولي ومنظمة «الشفافية الدولية» أن ثمة استحالة في مواجهة جحيم الفساد الذي دمر البلد منذ أيام كينياتا وازداد سوءا مع خلفه دانيال أراب موي، الذي يعتقد أنه جرد أحد أفقر شعوب العالم من بقايا الرغيف.

روى لي الزميل شوقي الريس أنه ذهب إلى ضاحية الفقراء في نيروبي ورأى مشهدا شبيها بمشاهد أيام الحشر. لا حد للأعداد ولا حد للفقر ولا تفسير لكيفية الحياة وإمكانات البقاء. على ماذا يبقون؟ على ماذا يقتاتون؟ على ماذا يعالجون؟ لقد بدا له معسكر الفقر في نيروبي، أكثر رعبا ويأسا وبؤسا، مما كانت توصف به مدينة كالكوتا الهندية.

لا يباع كتاب «حان دورنا لأن نأكل» في مكتبات نيروبي، فأصحابها يخشون الانتقام الذي قد يأتي من العسكر، جميع العسكر، أو من الشرطة، جميع الشرطة، أو من السياسيين، جميع السياسيين. الكتاب يفضحهم جميعا. لكن صبية فقراء يبيعون نسخا من الكتاب في وسط المدينة.

مثل نيجيريا وليبيريا وسيراليون تنزلق كينيا نحو الخراب، بسبب طبقة سياسة مجرمة. بعيدا مضت تلك الأيام التي كان يقال فيها إن كينيا جنة عدن.