فَنُّ الغواية الجماهيرية

TT

منذ وصول نجاد إلى السلطة في إيران، وولادة الإمارة الحماسية/ الإخوانية في غزة، تسجل الهجمة الثنائية على النظام العربي، انحدارا ملحوظا في أخلاقية الممارسة السياسية في المنطقة العربية. ثورات الإعلام الإلكتروني المتسارعة (الفضائيات. الفيديو. الكاسيت. العدسات. الإنترنت) نبَّهت قوى التحريك المعارضة والمضادّة، إلى أهمية وسهولة الهيمنة على الرأي العام، من خلال هذه الأدوات.

الهدف تجنيد جماعي لقوى الشارع الشعبي، في هذه الحملة المتواصلة على النظام العربي، باستخدام فن الغواية الجماهيرية والمغالطة الإعلامية. لا بد من الاعتراف بأن حماس أدارت أخيرا، ضد النظام المصري، معركة دعائية عالمية وعربية، من خلال تسويق «فقاعة» جورج غالُواي في تظاهرة أوروبية، لم يعرفها من قبل الشارع العربي. فقاعة تَمَّ فيها حجب مسؤولية حماس عن محاصرة إسرائيل 1.5 مليون فلسطيني، وتحميل مصر وحدها عبء الكارثة التي حلت بغزة!

النظام المصري المثخن بالجروح، في معارك وأزمات جانبية ومحلية، لم يكن متأهبا لمواجهة حرب دعائية مفاجئة، حيكت خيوطها بمهارة حرفة حماسية/ إخوانية، ووُظفت فيها كل أدوات التضليل الإعلامي. فوجئت مصر على حين غرِّة، بحماس تقدمها فريسة إلى شارع عربي بسيط. مغسول الدماغ. غير قادر على تحليل الأحداث. مراجعة الوقائع. متابعة تسلسل الحقائق.

شحن غالُواي نفسه في سلّة غذائية، على رأس حملة تضم 250 شاحنة، مع حمولتها المحشوة 450 «ناشطا» أوروبيا وعربيا وتركياً، وصفوا بأنهم من «جهابذة الكتاب والشعراء».

ثم تبيَّن أن هؤلاء محترفو صراخ، ضمن أوركسترا حماس غالَواي، في عواصم ومدن ومواني المشرق العربي. هتف هؤلاء «الأدباء» المتأدبون بسقوط مصر. لا إسرائيل.

أَسالوا دموع إخوان الأردن. خرج مشايخ السياسة، بدورهم، للتظاهر ضد مَنْ؟ ضد مصر أكبر بلد عربي! ثم استفادت حماس من كمية لا بأس بها من «شعراء» غالُواي في هجومهم على القاهرة، ليرددوا «قصائد» في سبّ مصر، وشتم نظامها، والاصطدام بأمنها الذي منعهم من إلقاء «أشعارهم» ضد بلدانهم وحكوماتهم، ومحاصرة سفاراتها.

للأمانة مع غالُواي، أقول إن عواطفه، منذ شنق صدام، غدت فلسطينية. طلَّق زوجته. تزوج فلسطينية. غالواي محظوظ دائما. أخرجه توني بلير من حزب العمال. ألغى دائرته الانتخابية في اسكتلندا. فانتخبته لندن نائبا عنها. غير أن شعبويته تجعله خارج التيار السياسي والحزبي العام، من دون نفوذ أو تأثير.

من هنا، أهمس في الآذان الطويلة لمشايخ حماس، محذرا من تكرار خطأ صدام، في استعانته لتحسين صورته الدولية، بالتيارات الشعبوية (غالُواي)، أو العنصرية المتطرفة (جان ماري لوبين في فرنسا). إذا كان غالُواي محظوظا، فإني أخاف من «نحسه» على الشيخ مشعل. سقط أو رحل كل من ناصرهم غالواي: عرفات. صدام. مشرّف. بناظير بوتو. حتى عباس خسر غزة.

في فن إغواء الجماهير، لا بد من اللجوء إلى المغالطة الإعلامية. أعني حجب الحقائق. تجاهل جذور الأزمات. المكابرة في الدفاع عن الأخطاء في التكتيك والاستراتيجية. الإعلام المصري لم يعرف كيف يفضح مغالطات حماس وأوركسترا غالُواي ضد مصر. مضى الشيخ إسماعيل هنية في الرَبْتِ والطبطبة على كتف مصر، بوعدها بلجنة تحقيق مع قناص حماس «المجهول» الذي قنص جنود مصر، وقتل أحدهم على معبر رفح.

لم يعرف الإعلام المصري كيف يروي تاريخ نشوء حماس. لم يعرف كيف يعيد ترتيب حقائق ووقائع دخولها المسرح السياسي:

* سكوت إسرائيل عن انتشار حماس في غزة، نكاية بفتح (1970/1987).

* خطأ حماس في الرهان على هدنة طويلة مع إسرائيل، تسمح للدولة المحتلة بمواصلة التهويد والاستيطان، بدلا من الانضمام إلى السلطة الفلسطينية وفتح، في الرهان على دولة فلسطينية.

* خطأ الرهان على العمليات الانتحارية التي أوصلت اليمين الإسرائيلي إلى الحكم والسلطة، منذ النصف الثاني للتسعينات.

* عَسْكَرة حماس للانتفاضة الثانية (2000) بمواصلة العمليات الانتحارية التي تذرعت بها إسرائيل في بناء السور الذي قضم عشرة بالمائة من أجود أراضى الضفة، وأحكم حصار القدس، ومكن نصف مليون مستوطن من الإقامة في الضفة والقدس الشرقية.

* شنت حماس حملة صاروخية عديمة الجدوى. قتلت الصواريخ خلال ثماني سنوات (2001/2008) 13 إسرائيليا فقط. وتسببت في النهاية بشن حملة إبادة إسرائيلية، قتلت 1400 فلسطيني. دمرت ألوف المنازل. شردت مئات الألوف.

* لم تعرف حماس الاستفادة من تحرير غزة (2005) لتنفيذ مشاريع تنمية، تقي شعبها مغبة الحصار، وذلّ تَسَوُّل الهبات والمساعدات.

* انفصالُ حماس بالانقلاب المسلح، عن السلطة الشرعية (منتصف2007) قتل في الانقلاب، وعمليات التصفية التي تَلَتْه نحو مائتي عسكري ومدني. وجرح ستة آلاف.

* أحبطت حماس جهود السعودية ومصر، على مدى عامين، لتحقيق المصالحة الفلسطينية. راهنت حماس على إيران. لم تأمر حزب الله بخوض معركة غزة الشهيدة.

* وقعت فتح ورقة المصالحة. لم توقع حماس إلى الآن. تماطل وتسوّف حماس يوميا. تقول إنها ستوقعها. لكن لديها على الورقة ملاحظات. لعلها تريد أن تضمن إبقاء سيطرتها الأمنية على غزة، لاستكمال مشروع الإمارة الإخوانية.

* لا السعودية، ولا مصر تريدان تجويع غزة. الغرض الضغط على حماس. تريدان من المصالحة التمهيد لتشكيل حكومة وحدة وطنية. الشرعية الفلسطينية هي كفيلة بإسقاط الحصار وفتح المعابر. لا انقلاب حماس ولا فقاعة غالواي. هذه الشرعية تسقط دوليا ذريعة إسرائيل بأنها تفرض الحصار على غزة لأن غزة تحكمها «منظمة إرهابية». تفرّد حماس بغزة أجّل انسحاب إسرائيل من الضفة، بحجة غياب وحدة الموقف السياسي الفلسطيني.

وبعد، لا عتب على الرئيس نجاد، في مواصلة حملته على السعودية، من خلال مغالطاته الإعلامية. لا عتب على حسن حزب الله، في ممارسته الغواية الجماهيرية، تخديرا للعرب بوعود «إلهية» بالقضاء على إسرائيل، وتغيير الواقع في المنطقة (يقصد النظام العربي).

إنما العتب على تركيا. كان على تركيا احترام سيادة مصر. كان على إردوغان أن يسأل مبارك سلفا، إن كان يقبل بتسييس فقاعة غالَواي، وشحنه إلى الشارع المصري في تظاهرة سياسية، حولتها حماس إلى محاولة لهز استقرار مصر، واللعب بأمنها. كان الرد المصري رقيقا. مهذبا. مسؤولا: منذ الآن فصاعدا، لا تكرار لفقاعة غالواي. لا تسييس لسلة غزة الغذائية. المساعدات التموينية سوف تسلم إلى الهلال الأحمر المصري. الهلال يسلمها، بدوره، إلى غزة من معبر رفح.

الأجواء في المنطقة العربية حبلى بالمفاجآت. الضغوط الأميركية هائلة على العرب. أوباما يكرر وعد بوش المخادع بإنهاء مفاوضات «أنا بوليس» بدولة فلسطينية. ما زال محمود عباس صامدا. لُدغ من «أنا بوليس». هل يقبل بأن يُلدغ مرتين؟ كان إردوغان حاسما مع إسرائيل. رد إهانة أيالون وليبرمان لسفيره في تل أبيب، بإهانة إهد باراك جلاد غزة، رافضا استقباله في أنقرة. يبقى على إردوغان أن يوضح أين تقف تركيا في اندفاعاتها المشرقية: مع إيران؟ مع غالواي وحماس؟ أم مع السعودية ومصر والعرب؟