احتجاب الهلال النجادي واستطلاع رؤية البدر الأردوغاني

TT

يتوالى التصدع في الجبهة الداخلية الإيرانية، وإلى درجة أن الجمهورية الإسلامية باتت جمهوريتين: جمهورية يترأسها محمود أحمدي نجاد تتحصن بسلطة المرشد آية الله خامنئي والحرس الثوري، وجمهورية الظل التي وُلدت بشكل عفوي، وتأخذ يوما بعد آخر شكل التمرد الايجابي الذي يؤدي إلى حالة أشبه بالذي جرى في الاتحاد السوفياتي مع غورباتشوف الذي قوَّض الإمبراطورية، ثم مع يلتسن الذي خطف التغيير من صاحب «البيروستريكا» ليورثه إلى فلاديمير بوتين النتاج الأول من الطبعة الحديثة للظاهرة القيصرية.

وعلى دوي هتافات مسيرات شعبية منظمة هدفها القول إن الشارع الخامنئي النجادي الحرسي النووي أهم من الشارع الإصلاحي الموسوي الكروبي، وهذا على الأرجح في انتظار الشارع الرفسنجاني الذي ربما تكون ملامحه مزيجا من الغورباتشوفية واليلتسينية والبوتينية معا، يتصرف أهل الحلم الإيراني بثقة بالنفس أشبه بالغطرسة، وصلت إلى حد أن الرئيس محمود أحمدي نجاد لا يكتفي بترديد القول حول أن إيران باتت أهم دولة، وأنها تريد شراكة مع كبراء العالم في اتخاذ القرار الدولي وأنها.. وأنها، وإنما يرد على انتهاء المهلة الدولية (آخر العام الذي انقضى) في شأن الحل الوسط لمبادلة اليورانيوم عالي التخصيب، بأن يوكل إلى وزير خارجيته منوشهر متقي أمر إطلاق تحذير مماثل، وهو إمهال الدول الكبرى الست المتابعة الملف النووي الإيراني شهرا ينتهي باليوم الأخير لشهر يناير (كانون الثاني) 2010 للموافقة على شروطها، وإلا فإن إيران ستبدأ اعتبارا من أول فبراير(شباط) خطوات إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب بنفسها.

روحية هذا التحذير وكلام كثير سمعناه من الرئيس نجاد يُذكرنا بكلام قاله الرئيس صدام حسين، يوم الأحد، 15 فبراير (مصادفة أنه شهر الإنذار الإيراني للمجتمع الدولي) في كلمة وجهها «إلى الشعب العراقي العظيم وأبناء أمتنا العربية المجيدة والمسلمين في كل مكان» وقال فيها: «إننا بكامل الاستعداد وبسلاح فتاك سنجعل المنازلة نهاية الإمبراطورية الأميركية». وإذن فنحن بعد هذا التحذير الذي أطلقه متقي يوم السبت 2/1/2010 بعد يومين من انتهاء المهلة الدولية، مغتنما الفرصة أن قادة الدول الست ما زالوا في أجواء إجازة الميلاد ورأس السنة الجديدة، على موعد مع مناطحة لا سبيل أمام تعديل حدوثها، خصوصا وأن روسيا والصين تحفظتا ما فيه الكفاية، وباتتا أقل ابتعادا عن موقف الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وبذلك لا يعود في استطاعة الحكم الإيراني أن يلعب على التناقض الدولي. وفي حين تبدو المناطحة واردة بقوة، ونكاد نقول إنها في الأصل مقررة، إلا أن الرئيس باراك أوباما ارتأى الأخذ بدبلوماسية التهدئة، والنأي عن أي إقحام للإسلام والمسلمين في أي حديث له حول الإرهاب، الذي كانت عملية الشاب النيجيري، الذي فيه من حيث الشكل واللون ملامح من الرئيس اوباما، الحلقة الأحدث والأخطر فيه. ووجه الخطورة أن «القاعدة» التي تمكنت من تجنيد عناصر مثقفة وجامعية من أبناء المملكة العربية السعودية بدأت تُيمم في مخطط التجنيد شطر المجتمع الأفريقي، وبالذات في أوساط طلاب من عائلات ميسورة يتلقون العلم في كليات مرموقة في بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية.. هذا إلى جانب تقنية الإرهاب وعلى نحو ما حصل مع الشاب النيجيري، تجعلنا نفترض أن ما يتم تزويده لـ«جيمس بوند القاعدي»، أكثر تطورا من الذي طالما شاهده الناس في أفلام «جيمس بوند الهوليوودي». والتطوير الجهنمي على ما يبدو مستمر، ومع كل حالة، سيبقى الإسلام والمسلم حاضرين بقوة في المشهد الإرهابي. يا لهذا الظلم للدين الحنيف والرسالة العظيمة تأتي من «جهاديين في سبيل الإرهاب» وفي ظنهم أنه في سبيل الله والدين الحنيف.

وعلى وقع مؤشرات إلى التصدع في الجبهة الداخلية الإيرانية ودوي هتافات المسيرات الشبيهة بدوي الهتافات في المسيرة الصدَّامية المليونية للتأكيد بأن العراق الثوري البعثي عَصيّ على أن تهزه العقوبات والتهديدات الدولية، وهو تأكيد تبيَّن أنه كان يفتقر إلى الحكمة والقراءة المتأنية لطبيعة الواقع الدولي.. على وقع المؤشرات ودوي الهتافات يحدث من جانب تركيا السُنية ما يعني أن الهلال الشيعي الذي تسعى إيران ضمنا إليه، وبحيث يبدأ بإيران وينتهي بلبنان شاملا العراق والأردن وسورية في انتظار أن يشمل لاحقا فلسطين، قد يأفل أو يحجبه البدر الذي قد يكتمل ومن دون أن يتأبط قادته القوة النووية وبذلك لا يخشاهم المجتمع الدولي وإنما يطلب ودهم. وهذا البدر بدأت، على ما يجوز القول، عملية استطلاع رؤيته منذ أن طرح الزعيم التركي رجب طيب أردوغان خطته لإقامة مجالس للتعاون الاستراتيجي مع كل من سورية والعراق ولبنان والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية. وتفاديا من جانبه للحساسية التي من شأنها إعاقة خطته، فإنه وضع خطا أحمر لا يجب تجاوزه مع إسرائيل الأمر الذي أوجد حالة من الارتياح الشكلي في نفوس الجماهير العربية والفلسطينية المنزعجة من التطبيع غير المجدي، خصوصا أن طبيعة العدوان الإسرائيلي بعد التطبيع غدت أشرس بكثير منها قبل التطبيع الساداتي المستمر ثم التطبيعيْن اللاحقيْن الأردني والفلسطيني، فضلا عن بعض البوابات الخليجية المفتوحة أمام حالات من التطبيع الذي ينفع إسرائيل ويضر بمهابة وسمعة أصحاب هذه البوابات.

وإلى الخط الأحمر في موضوع العلاقة مع إسرائيل نجد الرئيس أردوغان يجزئ خطته، بحيث أنه لا يدعو إلى قيام مجلس تعاون يضم الدول المشار إليها دفعة واحدة، وذلك كي لا يبدو في تصرُّفه هذا على نحو ما فعل الرئيس صدَّام عندما طرح على الرئيس حسني مبارك والرئيس علي عبد الله صالح والملك حسين خطته المتمثلة بتأسيس « مجلس التعاون العربي»، وهدفه أن يواجه به سياسيا «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» ومعنويا وعسكريا إيران الخمينية. ثم يتبين أن المجلس الصدَّامي هذا قام تحت وطأة ظروف اضطرارية للشركاء الآخرين وبحيث أن الحال وصلت بالرئيس مبارك بعدما نفض اليد من الشراكة نتيجة الاجتياح الصدَّامي للكويت يوم الخميس 2 أغسطس (آب) 1990 إلى حد وصْف المجلس الذي كانت مصر أحد أعمدته بأنه «مجلس التآمر العربي» وليس «مجلس التعاون العربي».

وفي تجزئة الخطة من جانب أردوغان ما قد يجعلها تصمد، وبحيث تتأكد الأطراف المتعاونة بعد سنوات من التعامل التعاوني الثنائي أن انضواء الدول تحت مظلة «مجلس التعاون العربي _ الإسلامي» على ما يجوز افتراض التسمية أمر ممكن، خصوصا أن لا هيمنة فيه ولا مهيمنون، وخصوصا أيضا أنه مجلس لتنشيط التسوية السلمية في المنطقة بدليل أن مضمون البيان المشترك عن محادثات أجراها الرئيس أردوغان مع الرئيس بشار الأسد صدر يوم الخميس 24 ديسمبر (كانون الأول) 2009 أكد بوضوح على ذلك. وبالقراءة المتأنية للمضمون لا نجد سوى مفردات التهدئة والتطلع إلى السلام وليس المواجهة. والذي يستوقفنا في البيان الفقرة الآتية: «إن تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة يشكل بُعدا أساسيا لتعاونها خصوصا وأنهما يواجهان كما تواجه المنطقة الأخطار والتحديات ذاتها. وتشديدا على الحاجة لإيجاد حل شامل للصراع العربي _ الإسرائيلي في مساراته الثلاثة أعاد الجانبان تأكيد قناعتهما بأن الحل العادل والشامل لهذا الصراع يجب أن يتحقق على أساس قرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومبدأ الأرض مقابل السلام ومرجعية مؤتمر مدريد ومبادرة السلام العربي. واتفقا على استمرار التنسيق والتعاون في هذا المجال بهدف إيجاد حل عادل يضمن الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان السوري المحتل عام 1967، وبما يسهم في تدعيم الأمن والاستقرار في المنطقة». وإلى جانب ما يستوقفنا في البيان ووصْف الرئيس أردوغان للرئيس بشَّار بـ«شقيقي الغالي الرئيس الأسد» تأكيد وزير الخارجية السورية وليد المعلم أمام البرلمان السوري يوم الثلاثاء 29 ديسمبر 2009 «أن العلاقة المميَّزة والاستراتيجية مع تركيا تشكِّل نواة لتضم في المستقبل القريب لبنان والأردن والعراق، وبالتالي صُنْع الشرق الأوسط الجديد بأيدي أبناء المنطقة». كما يستوقفنا قول أحمد داود أوغلو صاحب نظرية «العثمانية الجديدة»، ومن ملامحها البدر العربي _ الإسلامي الذي يتم استطلاع رؤيته، حجبا للهلال الشيعي الذي سعت، وما زالت، إليه إيران، في مؤتمر صحافي عقده يوم الخميس 31 ديسمبر (نهاية العام التركي بامتياز) وعرض فيه تقييمه للسياسة الخارجية التركية خلال ذلك العام «إن هدف تركيا هو الوصول بمشاكلها مع دول الجوار إلى نقطة الصفر وصولا إلى تحقيق مبدأ سلام في الوطن وسلام في العالم. وبالنسبة إلى العلاقة مع أميركا فإنها اكتسبت زخما جديدا مع بداية عهد الرئيس أوباما ونعمل معها على شراكة نموذجية ليس على أسس عسكرية وحسب، بل استراتيجية واقتصادية أيضا». إذن فـ«مجلس التعاون الأردوغاني» مقبول من حيث المبدأ أميركيا ودوليا.. وخليجيا، في ضوء استقبال الملك عبد الله بن عبد العزيز للمنظِّر التركي أوغلو بعد محادثات أجراها الأخير يوم الأحد 3 يناير 2010 مع الأمير سعود الفيصل الذي شدد على «أهمية الدور التركي في حل مشكلات المنطقة نظرا إلى الثقل الذي تتمتع به سياسيا واقتصاديا». وقد يكون العام 2010 هو عام ثبوت رؤية البدر العربي - الإسلامي وأفول أو احتجاب الهلال الشيعي ذلك أن سماء المنطقة لا تتحمل كثرة المشاريع التعاونية.. إلاَّ في حال كانت على نحو ما فعل قادة الخليج، ويسعى أردوغان لتحقيق المجلس الذي لا يثير البغضاء، وتنضوي مصر والسودان وليبيا ودول المغرب الأخرى تحت راية «مجلس التعاون العربي – الأفريقي» بديلا لـ«الاتحاد المغاربي» المستغرق في تنويم أصحابه له. ويحدد العراق نهائيا مكانه فلا يبقى الموقف على نحو قول وزير خارجيته هوشيار زيباري: «إن التنافس على مستقبل العراق يأتي من دولتين غير عربيتين هما إيران وتركيا».

وبدءا من أول يناير 2010 علينا أن نستطلع لنعرف أي هلال ستثْبُت رؤيته، بالوجه الموضوعي، وأي هلال سيؤكد أنه كان تحت خط الاقتناع ولذا فإنه سيحتجب. والله أعلم