فيلم خيالي

TT

إذا كان الشعر والأدب هما بيان الأمس وشعارهما الكلمة، فإن الصورة هي بيان اليوم ورمزها في التلفزيون والإنترنت والسينما. والسينما كل فترة وأخرى تقوم بتقديم عمل «مختلف» يأسر المشاهد ويقدم رسالة «مختلفة» يدمج فيها مجموعة من التحديات الإنسانية والأخلاقية في قالب إبداعي خلاّب وآسر. واليوم حديث الناس عن فيلم ملحمي هوليوودي جديد: «آفاتار»، وهو نسيج من الخيال العلمي الفضائي الوسترن البيئي المليء بالشعارات والمبادئ اليسارية. والفيلم يصور دراما خيالية لغزو فعلي لكوكب آخر يقوم به رمز للشر، ومن الممكن إسقاط هذا المعنى على وقائع عديدة كما حاول النقاد والمحللون تفسير ذلك، فهناك من أسقطه على احتلال إسرائيل للفلسطينيين وسوء معاملتهم وهي مسألة لم ينكرها جيمس كاميرون نفسه مخرج الفيلم، ومن الممكن إسقاطه على المعاملة الهمجية للأميركي الأبيض باتجاه الهنود الحمر سكان القارة الأصليين، وكذلك من الممكن إسقاطه على التدهور الكبير الحاصل في الشأن البيئي وتداعياته على كوكب الأرض. وطبعا الفيلم وبالدرجة الأولى من الممكن إسقاطه على الغزو الأميركي للعراق لأن هناك مقتطفات من الحوار تسترجع بعض أقوال وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس.

الفيلم طويل جدا، ثلاث ساعات، وبه تقنية باهرة وغير مسبوقة ويجب مشاهدتها في دار السينما وبنظارات خاصة للاستمتاع بالتصوير الثلاثي الأبعاد الذي ينقلك إلى عوالم خيالية بامتياز. حاز الفيلم على جوائز الكوكب الذهبي (الغولدن غلوب) ومرشح أن يكتسح جوائز الأوسكار تماما، مثل ما حدث مع فيلم «تيتانيك» آخر أفلام المخرج جيمس كاميرون. الفيلم حطم إلى الآن كل الأرقام القياسية للإيرادات حول العالم ويحقق أرباحا هائلة لمنتجيه، وذلك على الرغم من وجود ميزانية هائلة للفيلم كانت بلغت 350 مليون دولار أميركي. كوكب باندورا المكان الرمز في الفيلم قدمه كاميرون بتقنية رقمية أشبه بالخيال، ملحمي النبرة وبيئي الرسالة، يجسد الفيلم رحلة عجيبة عبر الزمان والعقل يمكن تحميلها لتفاسير مختلفة ومعاني شتى بسهولة ويسر وبلا تعقيد وتلك هي ميزة الفيلم الكبرى. المخرج انهمك في محاولة معرفة سر الجنوح البشري وغريزته نحو الآيدولوجية الاستعمارية والميول الإمبريالية للسلطة والسيطرة. يقدم الساكن الأصلي للكوكب على أنه نموذج للفطرة السليمة والصالحة والتي تصطدم بالغريب الغازي القادم من عوالم أخرى ملئ بالعنجهية والعدوانية. ونظرة الفيلم إلى الإنسان المحتل، المغتصب، الغاصب تأخذ معاني أهم وأكثر جدية في عالم وزمن يتهم الإنسان فيها رسميا وعالميا بإهمال القضايا البيئية، لا بل بالإسهام عمليا في تدمير وتلويث مناخه وأرضه ومياهه وعدم تقديم العون المطلوب ولا الاهتمام المناسب. فيلم «آفاتار» أكثر من مجرد ثلاث ساعات من الترفيه المرئي، إنه جرعة مكثفة ومركزة من الوعي والفلسفة وتشريح للنفس البشرية في مسألة محددة ويستحق التحية والإشادة وهو يقدم بالدليل الملموس قدرة الأفلام على إحداث الفرق المطلوب في الإنسان لو وظفت بالشكل القوي المناسب.

[email protected]