ليس كل الركاب ينبغي أن يذهبوا إلى روما!

TT

أحن كثيرا إلى بيت الأسرة الكبير الذي يجتمع فيه الجد والجدة مع الأبناء والأحفاد، وقد حاولت جهدي أن أحقق ذلك على المستوى الشخصي مجدفا ضد تيار العصر ومتغيرات الزمن التي سرقت الإنسان من أحبابه وجعلته وحيدا كنبتة برية في سهوب الجدب العاطفي، فالنموذج الغربي للأسرة الذي بدأ يجتاح العالم هو أخطر ما يمكن أن يبلى به الشرق عامة، وعالمنا العربي على وجه الخصوص. فنحن أمة يفترض أن نتوارث صلة الرحم، وتتواصى بالتماسك الأسري، أمة تمقت الجحود والعقوق ونكران الجميل.

أكتب هذه الكلمات وبين يدي رسالة تقطر حزنا من أم تفرق عنها الأبناء وظلت وحيدة بين جدران منزل اعتاد أن يكون عامرا بالناس والأفراح والليالي الملاح، سأترككم مع رسالة هذه الأم التي انفض عنها الأبناء ورحل عنها الأحباب، ولم تجد من تبوح له بشجنها سوى الورق:

" اكتب الآن وليل الهم يرخي سدوله على نفسي، ويثقل بشجنه صدري، ولم أجد قلبا تتسع له الشكوى أكبر من قلب الورق، ولا أبيض من قلب الورق، أبثه حزني ووحدتي واغتراب روحي، فأنا أم فقدت في خريف العمر كل رصيدها العاطفي الذي يتمثل في أبنائها الثلاثة، لقد رحلوا جميعا ليبنوا أعشاشهم الخاصة بعيدا عني، وتركوني وحيدة هنا، وكأنني لست التي ضممت عليهم جناحي ــ منذ موت والدهم ــ لأقيهم مرارة اليتم، وهجير الزمن، ومخالب الحياة. لقد انفض السامر من حولي، وانقطع الحبل السري الذي يربطني بفلذات كبدي، ولم أعد أراهم إلا في تلك الزيارة الأسبوعية التي يأتون إلي فيها بزوجاتهم كأداء واجب. اعترف أنني حاولت طويلا أن اصطبر وأعلل الأمر بمتغيرات الزمن، ولكن لست أدري لماذا أحس الآن أننا جميعا ننافق هذا الزمن ونحرق في حضرته البخور ونسكب العطور، رغم أنه يسلبنا أعز القيم وأغلى الأحباب. ترى أي أهمية لحياة تنتهي بالوحدة والعزلة واغتراب الروح، أي قيمة لزمن تتعارض سماته مع وصايا الخالق بالبر بالوالدين، أي جناح ذل يخفضه الأبناء للوالدين اليوم وهم يطيرون بعيدا عن أعشاش والديهم؟!

إنني أمقت اليوم الذي وقفنا فيه كالبلهاء مبهورين بالحضارة الغربية لنتحول أمامها إلى حاطبي ليل نأخذ غثها وسمينها، طالحها وصالحها، وقد خلفنا وراءنا منظومة من القيم الجميلة التي حينما كنا نتمسك بها كان ــ يومها ــ الشرق شرقا.

أرجوك أن تعذر تطفلي عليك، أن أسرق بعض مساحات مقالك اليومي لانتصب شارة حمراء تقول لهذا الزمن المضطرب: قف، فضلا عدٌل مسارك، فليس كل الركاب ينبغي أن يذهبوا إلى روما!

ولم يدرك شهرزاد الصباح، ولكن هذه الأم المكلومة سكتت عن الكلام المباح، وتركتني بين سطور هذه الرسالة أتحسس أوزار العمر.