لبنان.. قاعدة المقاومة العربية والإسلامية

TT

في الساعة نفسها التي كان المبعوث العسكري الأميركي يبحث مع رئيس الجمهورية اللبنانية «تعزيز الجيش اللبناني بأسلحة متطورة»، كانت أحزاب وتنظيمات وشخصيات عربية وإسلامية تعقد - على مسافة كيلومترين أو ثلاثة من القصر الجمهوري - مؤتمرا لدعم المقاومة، ويعلن أمين عام حزب الله أنه سيهزم إسرائيل مرة جديدة، وسيغير وجه المنطقة بأسرها، وكانت شاشات التلفزيون تبث حديثا لأحد المسؤولين في أحد التنظيمات الفلسطينية المسلحة في لبنان يعلن فيه صراحة أن السلاح الفلسطيني خارج المخيمات في لبنان، خط أحمر لا يستطيع أحد أن ينزعه من أيديهم، فالإنسان اللبناني، بل العالم بأسره، يعرف أن «عودة المقاومة» إلى لبنان بهذا الشكل والحجم الجديدين، أمر خارج عن توجه الحكم والحكومة، وعن رغبة قسم كبير من اللبنانيين، الذين يخشون أن يؤدي إلى عدوان إسرائيلي جديد، يدمر البنى التحتية اللبنانية وربما أكثر، ويعيد لبنان إلى ما كان عليه قبل عشرين سنة. لكن ما من لبناني يستطيع إنكار حق الفلسطينيين والعرب والمسلمين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. كما أنه لا توجد حكومة لبنانية، ائتلافية كانت أم لا، قادرة على التنكر لحق المقاومة، فلسطينية كانت أم عربية أم إسلامية. وهكذا كان صوت المقاوَمات أعلى من صوت دعاة الاستقرار والتسوية السلمية في لبنان.

للوهلة الأولى يشعر الإنسان اللبناني بالاعتزاز ببلده جراء اختيار المقاومات الفلسطينية والعربية والإسلامية له كمركز أو كمنطلق أو منبر إعلامي لها. وتلك هي ثمرة الحرية السياسية التي ينعم بها، وشهادة على صدق انتمائه العربي، إلا أن تصدر لبنان جبهة مقاومة إسرائيل يستدعي بعض الملاحظات:

الملاحظة الأولى هي ما ستكون عليه ردة الفعل الإسرائيلية، ففي السبعينات والثمانينات احتلت إسرائيل قسما صغيرا ثم كبيرا من لبنان لصد المقاومة الفلسطينية التي اتخذته قاعدة لها. وفي عام 2006 قامت بعدوانها الذي لم يحقق أهدافه بفضل مقاومة حزب الله، ولكنه أحدث دمارا قدر بالمليارات. وهي منذ هذا العدوان الأخير تدرس وتخطط للحرب القادمة مع لبنان، ولأنها تعرف أن حزب الله قد جدد ترسانته الصاروخية ووسائل دفاعه الأخرى، فلسوف يكون عدوانها أقسى وأشد من العدوان الأخير، حتى ولو لم يحقق كل أهدافه. وهذا ما لا يريده أحد للبنان وللبنانيين، وفي طليعتهم حزب الله والمقاومون الآخرون. والسؤال هو: كيف سيستطيع لبنان المحافظة على سلامته واستقراره السياسي وتجنب عدوان إسرائيلي جديد، في الوقت الذي يتحول فيه تدريجيا إلى قاعدة رئيسية للمقاومة؟

الملاحظة الثانية هي قدرة الحكم اللبناني، لا سيما الحكومة الائتلافية، على التوفيق بين التجاذبات الإقليمية والدولية المتضادة التي تتنازعه، ونعني المحور الإيراني - السوري والمحور المصري - السعودي، والمحور الأميركي - الأوروبي، والنجاة من تصادمها. لقد تفادى الحكم نظريا، هذه التناقضات في البيان الوزاري والتصريحات التي تجمع بين «حق المقاومة» و«حق الدولة في بسط سيادتها على أراضيها» و«احترام القرارات الدولية» ولكن رغم اقتناع الجميع أن التوفيق بين هذه الخيارات ليس ممكنا، فإن الجميع تفهموا موقف الحكومة وعذروها. وسيستمرون في التفهم والعذر ما دامت الأمور سائرة في مجراها الطبيعي، وما دام الاستقرار غالبا. أما إذا دفعت أحداث دولية أو إقليمية الأوضاع نحو السخونة أو فجرتها، فإن هذا التوفيق يصبح صعبا، والخيار ملزما. ولكن أي خيار؟ ومن سيتحمل مسؤوليته؟

ومن يدفع ثمنه، إن لم يكن لبنان واللبنانيون؟

الملاحظة الثالثة هي أن هذه التطورات الأخيرة على المسرح السياسي اللبناني حملت إلى طاولة الحوار بندا جديدا يتعلق باستراتيجية الدفاع، وكيفية التوفيق بين «حق المقاومة» و«حق الجيش في بسط سلطة الدولة». وهذان الحقان يتناقضان مبدئيا، رغم كل التصريحات العسلية التي تتحدث عن تلاقيهما أو تكاملهما. ومن هنا السؤال حول تقوية الجيش اللبناني الذي يشارك فيه مع الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى ودول عربية: هل يصل الدعم إلى حد تمكين الجيش من بلوغ القدرة على صد عدوان إسرائيلي، ولا نقول التغلب عليها؟ أم أن غاية الدعم هي تمكينه من الوقوف في وجه حزب الله الذي يصرح كبار المسؤولين في العالم بأنه أقوى من الجيش؟ إنه سؤال يسأل، حتى لو كان التعاون بين الطرفين قائما وضروريا في الظروف الراهنة.

لقد عرف لبنان في الأشهر الأخيرة موسما سياحيا ناجحا وهو يستعد لاستئناف حياة طبيعية في ظل الوفاق الوطني الجديد. ولكن تحت هذا الغطاء الاستقراري الجديد، ومن حوله، تتحرك قوى دولية وإقليمية متنافسة بل ومتحاربة، ليس من أولوياتها استقرار لبنان وسيادته واستقلاله ووحدته الوطنية. كما تتحرك إسرائيل التي تشعر بأن الرأي العام العالمي بات أقل تأييدا لها، وأن عليها أن تفعل شيئا ما يخلط أوراق المنطقة ونزاعاتها من جديد، وعندها قد يدفع لبنان فاتورة هذه النزاعات، مرة أخرى، وغاليا.