ألبير كامو بعد خمسين عاما

TT

يحتفل الفرنسيون هذه الأيام بمرور نصف قرن على وفاة أديبهم الكبير ألبير كامو، صاحب الكتب الشهيرة: «الغريب»، و«الطاعون»، و«أسطورة سيزيف»، و«الرجل الأول»، إلخ... ونحن العرب تعنينا هذه الذكرى لأن الرجل وُلد في أرض عربية هي الجزائر عندما كانت لا تزال مستعمرة فرنسية. وفي رحابها نشأ وترعرع قبل أن ينتقل إلى فرنسا نهاية الثلاثينات، وهو في السابعة والعشرين من عمره. ولكن العبارة التي صدرت عنه بخصوص أمه والعدالة شوهت سمعته إلى الأبد، وبخاصة في الجهة العربية. فعندما كان في استوكهولم لتسلم جائزة «نوبل» سأله أحد الصحافيين الجزائريين عن الطابع العادل للنضال من أجل الاستقلال، فأجاب: إذا أُجبرت على الاختيار بين هذه العدالة وأمي، فإني سأُضطر إلى اختيار أمي. ما معنى هذه العبارة التي أدت إلى سوء تفاهم كبير؟ هل تعني أنه كان مع الاستعمار كما يقول بعض الكتاب المتسرعين، بل والسطحيين في الجهة العربية؟ لا أعتقد ذلك. فالرجل أدان الاستعمار أكثر من مرة وهو في الجزائر. وقد انتسب إلى الحزب الشيوعي لأنه رأى فيه وسيلة للدفاع عن الفقراء الذين كان منهم، وللمساواة بين الأوروبيين والسكان الأصليين الجزائريين. ولكن سرعان ما انفصل عنه بعد أن ضاق ذرعا بالتدجين الآيديولوجي الذي يمارسه الشيوعيون. وعندما كان صحافيا نشر تحقيقا مؤلما عن وضع الفلاحين الجزائريين أثار غضب الجهات الاستعمارية، بل وأدى ذلك إلى فصله من العمل في الجريدة. نعم، لقد أدان الرجل القمع الكولونيالي والوصايا التي كانت تمارسها فرنسا وتجعل الشعب الجزائري المسلم يئن تحت نير العبودية والفقر والتمييز العنصري. وقد أدان مجازر سطيف أيضا. قد لا يبدو لنا كافيا نحن الآن. ولكن ألا يستحق التذكير به؟

ما الذي يقصده كامو بهذه العبارة الغامضة نسبيا: «أحب أمي أكثر»؟ من المعلوم أنه كان متعلقا جدا بأمه الفقيرة شبه الأمية ونصف الطرشاء. فقد اشتغلت كخادمة في البيوت لكي تستطيع تربيته بعد وفاة والده التي تلت ولادته بسنة واحدة. كان يحبها إلى درجة التقديس والعبادة تقريبا. بعض الكتاب الفرنسيين يقولون إن ألبير كامو كان ابن الجزائر، وقد أدان الاستغلال الكولونيالي والتفجيرات «الإرهابية» التي صدرت عن بعض جهات المقاومة الجزائرية. وهذه هي العدالة المقصودة في عبارته: إنها عدالة التفجيرات ضد الاستعمار. وهي تفجيرات قد تصيب المدنيين بشكل عشوائي. وهنا يطرح سؤال قديم جديد نفسه: هل يحق للمقاومة أن تقوم بتفجيرات عشوائية تصيب المدنيين بحجة عدالة القضية؟ هذا الكلام ينطبق على كل أنواع المقاومة في التاريخ. الجنرال ديغول أوصى من لندن بعدم ارتكاب تفجيرات مجانية ضد الألمان كي لا ينتقموا بشكل مرعب من الشعب الفرنسي الأعزل نفسه. ولكن في المقابل هل كان الاستعمار الفرنسي سيفهم الغضب المحتقن المتراكم لدى الشعب الجزائري لولا هذه التفجيرات بالذات؟ أما كانت إجبارية لكي يفهم الاستعمار أن الشعب الجزائري قد نفد صبره نهائيا؟ هكذا نلاحظ أن المسألة أكثر تعقيدا مما نظن. وموقف ألبير كامو كان حرجا جدا. يسهل علينا أن نحاكمه بعد خمسين سنة، ولكن لنضع أنفسنا مكانه ولو للحظة واحدة. أنا لا أريد الدفاع عنه بأي شكل، في خطابه أمام أكاديمية استوكهولم في أثناء تلقي جائزة «نوبل» قال ألبير كامو هذه العبارة المهمة: «الكاتب، أيّ كاتب، لا يجد مبرر وجوده إلا إذا قبل بخدمة قضيتين تشكلان شرف مهنته ومجدها: الأولى هي خدمة الحقيقة، والثانية خدمة الحرية».

فهل يعقل أن لا يكون قد فهم قضية الحرية للشعب الجزائري بعد مائة وثلاثين سنة من الاستعمار والقمع الرهيب؟ سوف يكون من المؤسف جدا إذا لم يكن قد فهم ذلك. ربما لم يفهم بما فيه الكفاية أن استقلال الجزائر قد أصبح على الأبواب وأن صفحة الاستعمار قد طويت إلى الأبد. ولكن ينبغي العلم بأنه ما عدا الجنرال ديغول وبعض الرؤيويين الآخرين، فإن أغلبية الشعب الفرنسي كانت مع الإبقاء على الجزائر فرنسية.

ولماذا لا نفترض الاحتمالية التالية: وهي أن ألبير كامو كان يخشى على أمه من تفجيرات منظمة الجيش السري الرهيبة التي كانت تفتك فتكا ذريعا بأي فرنسي يعلن تضامنه مع قضية الشعب الجزائري؟ من المعلوم أن الحركات الفاشية إذا لم تستطع الانتقام منك شخصيا فإنها تنتقم من أقرب المقربين إليك.

هناك تفسير آخر يقدمه لنا جان بول سارتر في نصه الشهير: الوجودية ذات نزعة إنسانية. ففيه يبرر عدم انخراطه الكافي في صفوف المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني عن طريق القول بأنه لم يرد أن يفجع أمه فيه، فهو يحب أمه كثيرا مثل كامو ولا يريد أن يسبب لها ألما فظيعا إذا ما سمعت باستشهاده في المقاومة. ولكن المشكلة هي أنه لو فكر الجميع على هذا النحو لما كان هناك مقاوم واحد في التاريخ.

وفي نهاية المطاف أعتقد أن سارتر وكامو كانا يريدان أن يقولا ما معناه: الكاتب الكبير يحق له أن يحافظ على نفسه ولا يعرضها للتهلكة، لكي يتسنى له الوقت الكافي لوضع أعماله الخالدة. فهنا يكمن مبرر وجوده، هنا تكمن مقاومته الحقيقية.