الصادقة هي «صاحبة البقرة»

TT

يحكى عن الملك هنري الرابع، ملك فرنسا، أنه كان من أكثر الحكام ظرفا ودهاء وتسامحا واختلاطا بالشعب، ومما يروى عنه أنه كان يقطع بجيشه فرنسا من شرقها إلى غربها لتفقد أحوال الرعية، وإخضاع بعض المشاغبين، وعندما وصل إلى إحدى القرى توقف لتناول طعام الغداء فقال لأهلها ائتوني بأغبى الفلاحين عندكم ليأكل معي، فأحضروا له أحدهم وجلس أمامه على المائدة، فسأله الملك عن اسمه، فقال له: «غايار» - وهذه الكلمة الأخيرة معناها بالفرنسية «قوي البنية» - وأراد الملك أن يمازحه فسأله فجأة: ما الفرق بين «غايار» و«بايار»؟ - وهذه الكلمة الأخيرة معناها بالفرنسية «فاجر» - فأجابه الفلاح الخبيث بهدوء ودون أي تردد قائلا: ليس هناك فروق بين الاثنتين يا مولاي سوى المائدة.

وهو يقصد أن الملك هنري الرابع هو الفاجر، وأنه هو القوي البنية حسبما يستدل من اسمه (غايار). وفي ذلك تلاعب رائع بالألفاظ، والغريب أن الملك لم ينزعج ولم يغضب من كلامه، بل إنه بالعكس ضحك وقدم له نقودا على شجاعته، ثم خاطب أهل القرية قائلا لهم: إذا كان هذا الفلاح هو أغباكم فكيف يكون أذكاكم؟ وسألهم عن احتياجاتهم وحققها لهم.

وفي نفس تلك الرحلة أرهقه الطريق الطويل، فتوقف في مدينة إيفيان لقضاء فترة من الراحة، فخف إليه السكان وعلى رأسهم رجل شاء أن يرحب به، فبدأ خطابه بهذه الألقاب: أيها الملك العظيم، الكثير الحلم، الفائق الشرف، الكريم النفس... فقاطعه قائلا: أرجوك، أضف إلى ذلك «الشديد التعب». أود أن أرتاح، سأصغي إلى البقية في ما بعد.

وفي اليوم التالي استدعى ذلك الرجل وطلب منه أن يكمل خطبته - على شرط أن يبدأ بها من حيث توقف أمس - وإلاّ فلن يستمع لها، وأسقط في يد الرجل، حيث إنه لم يتذكر الكلمة الأخيرة التي توقف عندها «بالضبط»، فأعفاه الملك من تكملتها ومنحه هدية إرضاء لخاطره، فأخذ الجميع يصفقون له ويهتفون.

وانطلق مع حاشيته وركبه، فشاهد امرأة تقود بقرة، فاقترب منها وتوقف عندها وسألها: بكم تبيعين بقرتك أيتها المرأة الطيبة؟ فلما ذكرت له ثمنها صاح بها: إنك تغالين بالثمن، فهي لا تساوي أبدا هذا المبلغ الذي تطلبينه، فردت عليه المرأة قائلة: هذا هو الثمن الذي أتمسك به، ثم إنك يا سيدي لا تفهم وليس لديك خبرة بالبقر، ولست بتاجر بقر.

فضحك الملك وهو يلتفت لأتباعه من حوله ومن خلفه قائلا لها: إنك غلطانة، ألا تشاهدين تلك القطعان من الأبقار والعجول التي تسير معي؟ فكيف تقولين إنني لست بتاجر أبقار؟ هل تريدين أن تشتري ثورا؟ فنكست رأسها بخجل ولم تجبه، فدفع لها ثمن البقرة الذي طلبته، وسلمته هي زمامها، عندها قال لها: وأنا بدوري يسرني أن أقدم لك هدية، وأعطاها زمام البقرة، فما كان منها إلاّ أن انحنت أمامه شاكرة، فمد يده نحوها ورفعها ثم عانقها وتمنى لها التوفيق.

وما إن ابتعد عنها قليلا حتى سمعها تسأل من حولها إذا كان هذا هو الملك حقا، فأكدوا لها ذلك، فقالت لهم متعجبة: لقد رأيت الملك، ولكنني لم أشاهد جلالته! والذي دفعها إلى ذلك القول هو أنها عندما شاهدت قيافته، حيث إنه مشهور عنه أنه قليل العناية بمظهره - يعني باللهجة الدراجة (مهرجل) - وما إن سمع كلمتها حتى أمر لها فوق بقرتها بخمس بقرات أخريات جزاء لصراحتها وشجاعتها.

وواصل رحلته الطويلة مع «قطعانه» قائلا لكل من حوله: كلكم تمتدحون «أناقتي وشياكتي» كذبا، والصادقة الوحيدة هي «صاحبة البقرة». على أية حال أنا أدرى منكم بنفسي.

[email protected]