متى نتعلم؟

TT

لا تقف معركتنا مع الأمية على تعليم القراءة والكتابة. وهو أمر سهل وموضوع زمن. ولكن هناك أمية أخطر وأصعب، وهي أن نتعلم النقد والتفكير الموضوعي. لم يتعلم على ذلك حتى من درسوا في الغرب ويعيشون في الغرب، كالقارئ (عراقي طبعا) الذي وجه تلك التهمة المشينة لي بأنني أكره العرب، بعد كل هذا العمر الذي أفنيته ودمرته في القضايا العربية، لمجرد أن قلت إننا لسنا أمة عسكرية محاربة. هذا يا سادتي موضوع لم أطرحه اعتباطا كما تصورتم. بل قضيت في دراسته سنوات، وشكل جزءا كبيرا من كتابي «نحو اللاعنف». ولي أبحاث منشورة كثيرة بشأنه. الشعوب العسكرية لها طوائف كرست نفسها منذ الطفولة للحرب والقتال كالسموراي في اليابان، واليونكرز في ألمانيا واسبارطة في اليونان. لم يوجد أي شيء من ذلك في تاريخنا. واشتهرت هذه الشعوب ببطولاتها الدفاعية، الفينيقيون في قرطاجة، الروس في ستالينغراد، الألمان في برلين، الإنجليز في دانكرك. لم نشتهر في أي معركة دفاعية أظهرنا فيها جلادتنا واستماتتنا في القتال حتى الموت. سلمنا بغداد وغرناطة دون إراقة قطرة دم واحدة دفاعا عنهما. «ابكِ كالنساء على ملك لم تحفظه كالرجال»، قالت أم أبي عبيد الصغير لابنها وهو يلقي آخر نظرة على مملكته. وتذكروا أخيرا حروبنا مع إسرائيل.

اشتهرنا بمعركتين، اليرموك والقادسية. وكانتا في الواقع غزوتين هجوميتين لم تدوما أكثر من أيام قليلة ولم يمت فيهما غير القليل من المقاتلين ولم تتركا أي بطولات خلدت في التاريخ. حروب الجاهلية، التي كثيرا ما نقرأ عنها، وصفها الجنرال غلوب بأنها كانت مجرد مناوشات محدودة لم يزد قتلاها عن نفر قليل، ولم تدم غير أيام قليلة. قارنوا ذلك بما فعله الأوروبيون في حرب الثلاثين سنة، والحرب السبعينية، والحربين العالميتين اللتين مات فيهما نحو خمسين مليون شاب.

لم نسهم بأي شيء عسكري في التاريخ. راجعوا أي قاموس إنجليزي تحت حرفي AL الذي يدرج الكلمات التي اقتبسوها منا بعد تشربهم بها لتروا كيف أنها جميعا تتعلق بالعلوم والفكر والفنون وطيب العيش. لن تجدوا بينها أي اصطلاح عسكري تعلموه منا، ربما باستثناء كلمة «أميرال».

لا أدري لماذا نضع الروح العسكرية فوق روح الحضارة والمدنية وحب الحياة والاستمتاع بها. لماذا أُتهم بكره العرب لقولي إنهم يحبون الحياة لا الموت؟

لقد انحدرت من أسرة كان فيها عدد غير قليل من كبار الضباط في الجيش العراقي. كان بإمكاني أن أدخل الكلية الحربية والأركان وأصبح ضابطا كبيرا أشترك في شتى الانقلابات والثورات وإبادة العائلة المالكة وقتل إخواننا المسلمين في كردستان وإيران. لم أفعل ذلك، وتوجهت للفنون والأدب والقانون. أيفضل حضرات القراء أن أكون قد كرست حياتي للقتل والقتال ضابطا بدلا من كتابة هذا العمود ضاحكا؟

لا أدري لماذا لا نركز على ما هو أجدى لنا، العلم والتعليم والتقنية، ونحل مشكلاتنا بالطرق السلمية والجهاد المدني بدلا من الهوس بالسلاح والتسلح؟