أين جثتي يا معالي الوزير؟

TT

مشهد أهالي ضحايا الطائرة الإثيوبية وهم يبحثون بأنفسهم عن جثث أولادهم على الشاطئ اللبناني، علّ الأمواج تقذف بهم وتنجح فيما عجزت عنه فرق الإنقاذ، أمر يثير الرعب في النفوس. الإعلان عن انتشال 25 جثة في اليوم الأول، ثم اكتشاف العائلات أنها 14 جثة فقط، يبعث على التساؤل حول حالة الفوضى المستشرية بين أجهزة الدولة التي تقول إنها استنفرت عن بكرة أبيها. ركض الأهالي المنكوبون بين المستشفيات، من دون أن يوجههم أحد إلى مكان موحد يلجأون إليه، لاستقاء معلومات تشفي غليلهم عن مفقوديهم، يبعث على الشفقة. كل العورات انكشفت، رغم حنان المسؤولين ودموعهم وهرع الوزراء والنواب لمواساة المحزونين. لم يملك أحد جوابا له طعم، على أسئلة المفجوعين الحائرين في أمرهم. لماذا بقيت جثث أولادهم مفقودة كل هذا الوقت رغم أن الطائرة سقطت على مرمى النظر؟ لماذا عجزت السلطات اللبنانية حتى عن تحديد الموضع الذي غاصت فيه الطائرة؟ وما الذي جعل وزير الداخلية يقول في الصباح إن الموقع قد حُدد لينفي ذلك في المساء وزير الإعلام، ويقول إن السفينة الأميركية التابعة للأسطول السادس هي التي ستقوم بالمهمة؟ يسأل متخصصون لبنانيون في الإنقاذ: لماذا علينا في كل مرة أن نستعين بأمم الأرض لانتشال موتانا، ونفقد في الانتظار من بقي منهم أحياء؟ شيء من العار يعبّر عنه المنقذون في لبنان والغواصون والمعنيون بالسلامة البحرية، يؤكدون أنهم قادرون على إنجاز عمل جبار لو أتيحت له المعدات اللازمة، وهي قليلة وبخسة الثمن نسبة لما يسلب وينهب، ويدسّ حراما في الجيوب. في كل مكان في العالم تبحث الدولة عن المتطوعين، وفي لبنان يستجدي المتطوعون - كل في مجال اختصاصه - الدولة أن تستفيد من خبراتهم، ولا تريد. جاءت قوات اليونيفيل لحفظ السلام بين لبنان وإسرائيل فتحولت بقدرة قادر إلى لجنة إسعافات تجوب ببواخرها المياه الإقليمية اللبنانية تبحث عن الغرقى، كلما استجد حادث جلل. وماذا لو لم تكن اليونيفيل معنا؟ أين البواخر والمعدات البحرية، في بلد لا شيء فيه أكثر من البحر ولا أكبر. شاطئ يمتد على مدى 225 كلم من الشمال إلى الجنوب ثم يأتي من يخبرنا أنه لا يستطيع الإنقاذ حين تكون الأمواج عاتية والرياح عاصفة - مع أن هذا هو الحال في شتاء كل سنة - وعلينا أن ننتظر الأميركان والإنجليز. وهل ينتظر المستغيث وطالب النجاة استدعاء هذا وذاك؟ وكيف لزعامات تطاول بأعناقها السماء أن تقبل بكل هذا العجز، وكأنها لا ترى خللا أو تقصيرا مشينا. يزداد غيظك حين تسمع المسؤولين يشيدون بالعمل العظيم الذي قاموا به والتكامل الممتاز بين وزاراتهم، وكأنهم صمّوا وعميت أعينهم عما به هم مقصرون.

حقا لا شيء يدعو للفخر، بل للخجل والاعتذار من شعب صفق لهم حتى اهترأت أكفه تشجيعا وتبجيلا، وهم عن أقل واجباتهم ساهون. يؤكد عاملون في الدفاع المدني ومسعفون أن أي كارثة كبيرة، شبيهة بما حدث في هايتي سيكون لها وقع فاجع في لبنان. ليس فقط أن المباني تجارية لن تحتمل هزات متوسطة لتنهار، بل إن التنسيق بين أجهزة الإنقاذ في البلاد يقارب الصفر، وكل يغني على ليلاه. أما عن معدات الانتشال التي تملكها الدولة، فهذا شأن آخر وتستحق ملفا طويلا وخاصا.

يدعو أحد المنقذين أن تبعد السماء الكوارث عن لبنان لأنه أضعف من أن يتحملها، وأجهل من أن يتدبر مسؤولوه أمرها. ويحذر ونحن نتكلم معه من كلاب ستجر الجثث لو وقع زلزال مدمر، خاصة وأن لبنان يقع على خط زلازل نشط.

نحن نعرف أن المسؤولين الذين بكوا على ضحايا الطائرة الإثيوبية لن ينتظروا حتى دفنهم ليعودوا إلى مشاداتهم، وخلافاتهم على تقسيم الجبن والحصص الدسمة فيما بينهم، وهذا ديدنهم، وعاداتهم التي أدمنوها. لكن سيكون من الغباء الذي لا يطاق أن يستمر صمت الناس، عن التقصير، الذي وصل حد العجز عن جلب الجثث عن بعد 8 كلم عن الساحل، أو اللجوء إلى بواخر تجارية لمواطنين، للبحث عن المفقودين، كما حصل عندما غرقت الباخرة البنمية. يقول أحدهم: من مهزلة الأقدار أن تضرب كارثة الطائرة الإثيوبية كل الناس بحادثة واحدة، المسلمين والمسيحيين واللبنانيين والإثيوبيين، أي السيدة المتشاوفة كما خادمتها المهيضة الجناح. هذا درس في العظم كي نفهم ونعي.

من مظاهر اليقظة المحمودة أن تضع وزارة الصحة هيئة من الأطباء النفسيين لمساعدة العائلات المنكوبة لتخطي أحزانها. وهذا مما يرفع الرأس ويبعث على التفاؤل. لكن أحد البرامج التلفزيونية استضافت طبيبا من بين هؤلاء ليشرح الحالات التي يتعامل معها. وصادف أن اتصل متألمون وغاضبون من تقصير الدولة، وتقاعسها عن القيام بواجباتها، وكانت صرخاتهم مؤثرة ونابعة من القلب. فما كان من مقدم البرنامج إلا أن التفت إلى الطبيب النفسي، وسأله كيف يمكن التعامل مع هذه الحالات العصبية يا دكتور؟ فما كان من الطبيب إلا أن قال بمنتهى الثقة: «هذه مرحلة طبيعية لا بد أن يمر بها الناس عند الأزمات، إنهم يبحثون عمن يحملونه المسؤولية، ليس أمامنا إلا أن نستمع لهم ونواسيهم، فهم بحاجة للكلام والفضفضة».

تحليل لا يدعو للطمأنينة، خاصة وأن السيد الطبيب لم يعد يفرق بين من يطالب بحقه، ومن يعاني نوبة عصبية. وبما أنه مفوض من وزارة الصحة سيكون من الصعب علينا أن نحيله إلى معالي الوزراء وسعادة النواب، ليستمع إليهم، عله يفهم منهم لماذا لا يتوقفون عن الكلام والفضفضة طوال السنة، ومع ذلك لا يتماثلون للشفاء؟