المشهد اللبناني والمسرح الجديد القديم

TT

أَجَّلَ حادث الطائرة الإثيوبية على شاطئ بيروت، الذي ذهب ضحيته تسعون راكبا أكثرهم من اللبنانيين، حدوثَ مُواجهةٍ في مجلس النواب اللبناني يوم الاثنين الفائت. والمواجهةُ المتوقَّعة كانت ستحدُث بين رئيس مجلس النواب نبيه بري، وزعيم التيار الوطني الحُرّ الجنرال ميشال عون. فقد دعا الرئيس بري مجلس النواب للانعقاد من أجل اشتراع خفض سنّ الاقتراع من 21 سنة إلى 18 سنة، على مشارف الانتخابات البلدية في شهر أيار (مايو) المُقْبل. وقد أثار المشروع هواجس المسيحيين اللبنانيين، لأنه يزيدُ كثيرا من الفارق بين أعداد ناخبيهم، وأعداد الناخبين من المسلمين. وكان ذلك هو الموضوع الثاني الذي اعتبر المسيحيون أن الرئيس بري يستهدفُهُمْ به. أمّا الموضوع الأول الذي دأب برّي على إثارته طوال الشهرين الماضيين؛ فهو موضوع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. وصحيحٌ أنّ الموضوع الثاني هذا واردٌ في دستور الطائف، وفي الدستور الذي سبقه، لكنه ظلَّ بدون علاج منذ قيام الكيان اللبناني وحتى اليوم. والخائفون من هذا الموضوع أيضا يَرَون أنه يُهدِّدُ «المُناصفة» أو النظام الطائفي اللبناني، الذي يُعطي المسيحيين بالإضافة إلى رئاسة الجمهورية، نِصْف المناصب والمواقع الدستورية والوظيفية في الدولة، بصرف النظر عن أعدادِهِمْ. في الموضوع الأول هذا سارع السياسيون المسيحيون للقول: إن الطائفية ينبغي أن تزول من النفوس قبل النصوص. ومضى البعضُ منهم إلى أساس النقاشات عشيةَ الحرب الأهلية عام 1975، فطالب بالعلمنة الشاملة - أي فصل الدين عن الدولة - وهم يعلمون أن للمسلمين تحفظاتٍ عليها بسبب مسألة الأحوال الشخصية، التي ما تزال تخضع لدى المسلمين في لبنان لأحكام الشريعة الإسلامية. وفي الموضوع الثاني (= موضوع خفض سنّ الاقتراع) قال بعضُ السياسيين المسيحيين: إن هذا الأمر لا ينبغي أن يمرَّ إلاّ بعد الخلاص من سلاح حزب الله، إذ ما دام الوجود المسيحي تحت التهديد؛ فلا بد من ضمانات. في حين مضى البعضُ الآخَرُ إلى الحلّ الأقرب أو الأَسْهَل في نظرهم، وهو اشتراع قانونٍ يسمح للمهاجرين في ديار الاغتراب - وهم بحسب التقديرات نحو عشرة ملايين أكثريتهم الساحقة من المسيحيين - بالمشاركة في الانتخابات حيث هُمْ! وبحسب التقديرات، وعلى هامش الجدالات التي أثارها هذان الأمران - بالإضافة إلى موضوع سلاح حزب الله - تعقَّد موضوعان آخران: موضوع التعيينات الإدارية في الدولة، وموضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيَّمات. في موضوع التعيينات في مناصب الفئة الأولى - وهي مقسَّمة طائفيا بالمُناصفة - اشتدّ النزاع بشأن آليات الاختيار ومعاييره. وفي موضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ظهر على المسرح من مدينة صيدا العقيد أبو موسى زعيم فتح الانتفاضة، الذي رفض نَزْع سلاح تنظيمه (الحاضر إلى جانب تنظيماتٍ أُخرى في منطقة البقاع)، رغم إجماع اللبنانيين على ذلك منذ مطالع عام 2006!

إنما لماذا إصرار الرئيس برّي على طرح هذه المسائل الشائكة والآن بالذات؟! كان هناك من قال إنّ بري فعل ذلك لصرف المسيحيين عن إثارة موضوع سلاح حزب الله، أو للدفع باتجاه تأجيل الانتخابات البلدية. لكنّ المشكلة أنّ حزب الله لا يبدو متحمِّسا لمقترحات رئيس مجلس النواب. فطوال السنوات الماضية، بذل الحزبُ جهودا جبَّارة لتهدئة مخاوف المسيحيين اللبنانيين من الحزب وسلاحه، واجتذب إلى جانبه فريقا مسيحيا رئيسيا هو فريق الجنرال عون، الذي رافقه في سائر أحداث التوتُّر والتوتير، كما ساعده كثيرا في الانتخابات النيابية الماضية. وفي الشهور الأخيرة، اعتمد الحزبُ في الدفاع عن سلاحه، على أمرين اثنين: تهديدات إسرائيل الدائمة بالحرب ومن هنا تظهر ضرورةُ الاحتفاظ بسلاح الحزب للدفاع والردْع. والأمر الثاني: الاتفاق مع رئيس الحكومة سعد الحريري ومع رئيس الجمهورية، على تَرْك موضوع السلاح والاستراتيجية الدفاعية للحوار الوطني، الذي يدعو إليه ويرأسُه رئيس الجمهورية، وتلك الاستراتيجية هي موضوعُه الوحيد. وهكذا فإنّ الحزب مُسْتَقْوٍ منذ الدخول إلى بيروت في 7 أيار (مايو) 2008، وليس بحاجةٍ إلى تنفير المسيحيين الآن بأيّ شيء. وبخاصةٍ أنّ الأمين العامّ لحزب الله كان قد طالَب في أحد خطاباته بهُدْنةٍ لمدة عامٍ بين الخصوم السياسيين، ينصرفُ خلالها اللبنانيون لتنظيم أُمورهم، والنهوض بمعيشتهم، وسط أجواء من التوافُق والهدوء. وما يقالُ عن الحزب، يقالُ عن سورية، العائدة بقوةٍ وراحةٍ إلى لبنان. فهي على علاقةٍ حَسَنةٍ بالجنرال عون، وبأطرافٍ مسيحيةٍ أُخرى، وليس من شأنها الآن إزعاج المسيحيين اللبنانيين بأيِّ ملفٍ شائكٍ يتعلقُ بأعدادهم ودَورهم في النظام اللبناني.

لكنْ إذا كان تصرُّفُ رئيس مجلس النواب، يستعصي على التعليل، ويظلُّ موضع تساؤل، وسط الاعتبارات التي ذكرناها؛ فإنّ التساؤلَ الآخَر المقابل هو عن هذا الكيان اللبناني، وإمكانيات إصلاح نظامه السياسي وتطويره. والإصلاح والتطويرُ يمكن القيامُ بهما دونما حاجةٍ ظاهرة إلى إثارة النزاعات بين طوائف الكيان الثلاث الكُبْرى. وبصرف النظر عن دوافع رئيس مجلس النواب الحالية؛ فإنّ تخفيض سنّ الاقتراع كان عليه إجماعٌ من قبل، وهو يُشِركُ الشبان في قضايا الشأن العامّ بطريقةٍ حضاريةٍ ومنتظمة. والمفروض أنّ اللبنانيين عندما اشترعوا المُناصفة في الدستور، تجاهلوا مسألة العَدَد كثرةً وقِلّةً. ومع ذلك؛ فإنّ موضوع الأعداد - مثل موضوع سلاح الحزب - إذا كان يُثيرُ حساسيةً لدى هذه الفئة أو تلك؛ فإنّ مواضيع مثل إصلاح الضمان الاجتماعي، أو الكهرباء، أو زيادة نسبة الفقر، أو زيادة العجز والدَّين العام أو النظر في الإفادة من نتائج مؤتمر باريس-3؛ كُلُّ تلك أمورٌ لا شَأْنَ للطائفية بها، وهي تُبْهِظُ كاهل المُواطن اللبناني منذ أكثر من عقدٍ من الزمان، ولا تعليلَ للعجز عن التصدّي لها، إلاّ أن السياسيين اللبنانيين غير قادرين على إدارة شأنهم العامّ، بطريقةٍ سويةٍ ومعقولة.

هناك من يقول إنّ المنطقة تمرُّ بمرحلة تغيراتٍ كبيرة، وإنّ لبنان صار جانبيا وهامشيا في ملفّاتها. لكنْ إذا كان الأَمْرُ كذلك، فلماذا هذا الجمود والتعقُّد في كلّ الموضوعات، ومنها ما هو مهدِّدٌ للنظام السياسي والإداري والمعيشي؟ ثم أين هو التغيُّر الكبير- بصرف النظر عن وضع لبنان فيه - إذا كانت الملفّات التي تُطرحُ الآن، هي ذاتُها ملفّاتُ النظام اللبناني القديم، والأوضاع الفلسطينية فيه، وطبائع علاقة الطوائف بالنظام، وقدرة ذلك النظام على خدمة مواطنيه، منذ عقودٍ وعقود. وهذا ينطبقُ على الملفّات السياسية الكبيرة، كما ينطبقُ على مواضيع إدارة المؤسَّسات، وينطبقُ أخيرا على مسائل عادية مثل النظر في معالجة السيول والأمطار بداخل المدن وعلى الطُّرُقات العامة!

لقد اعتاد اللبنانيون على النظر إلى المشكلات بطريقتين: بالاعتقاد أنّ الأزمات مستورَدة من الخارج، وأنّ هذا الخارج هو الذي يحولُ دون حلّ المشكلات القائمة. بيد أن سائر النقاشات التي دارت وتدور بعد تشكيل الحكومة الأخيرة، والتي طُرحت من خلالها مسائل هي في أكثرها قديمة، لا تشير إلى «خارج» حائلٍ، أو مُسَبِّب، وإنّما هي مشكلاتٌ داخلية بحتةٌ، بعضُها بنيوي في النظام يصعُبُ على أطراف النظام التوافُقُ عليها، وبعضُها إداري وتفصيلي لا عِلّةَ لتعسُّر حَلِّها إلاّ إباء التغيير أو الخوف المُبْهَم منه، حتّى لو كانت تلك المُشكلاتُ تُُحرقُ اللحم، وتنخرُ في العظْم!

عندما طرح الرئيس بري مقولاته الدستورية، والتنظيمية لنُصرة الشباب، سارع حليفُهُ وليد جنبلاط إلى تأييده فيها. ولو انعقدت جلسة الاثنين الفائت، لَسارعَ جنبلاط إلى حضورها لدعم صديقه. لكنه قبل حادث الطائرة وقبل انعقاد الجلسة جمع حزبَهُ بحزب الجنرال عَون، حيث أعلن عن توافُق استراتيجي! إنما ما معنى «الاستراتيجيا» هنا إذا كان زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي متفقا مع بري على تلك الموضوعات الاستراتيجية التي يختلف عليها الأخير مع الجنرال عون، حليف جنبلاط الجديد؟! إنها الطبقة السياسية اللبنانية، التي تتفق على كل شيء، وتختلف على كل شيء، ثم لا يحدثُ شيء!