عودة موهبة كتابية

TT

غادر تشارلز غلاس أميركا أواخر السبعينات لكي يعمل في صحافة الشأن العربي، أولا في لندن، ثم في بيروت. وكانت مؤهلاته للخوض في القضايا المريرة، لا تقبل النقاش، فهو من أب أيرلندي وأم لبنانية. وفي تلك الأيام طالما تزاوجت المأساتان في أميركا، ولعل أشهر النتاج السيناتور جورج ميتشل.

كان تشارلز وسيما، ولذا وجد في سرعة مكانا على التلفزيون، كما كان صاحب أسلوب أدبي جميل، ساعده على وضع كتب قيمة مثل كتابه عن لبنان: «قبائل لها أعلام». وبعد نحو عشر سنين في بيروت، ترك غلاس شؤون الشرق الأوسط، مفضلا عليها حروب أفريقيا والبلقان، على أثر حادث خطف تعرض له في بيروت، ونجا منه، إما بأعجوبة أو بتواطؤ أو بغض الطرف.

كنت أعتقد أننا خسرنا في ابتعاد غلاس عن المنطقة صوتا له سامعون كثر، وقلما فائق الجزالة والمعرفة. ولم أعد أسمع أو أقرأ، له أو عنه، إلا في ترهات اليوناني «تاكي»، وهو رجل متشاوف، مثل جميع الفارغين والمغرورين. ولا يكتب «تاكي» إلا عن اليخوت التي صعدها أو ترجل منها. وعن كلفة سيارته أو كلفة المطاعم التي يرتادها. ويعتبر أن لا هم لهذه الدنيا سوى أن تعرف أين يمضي الصيف وأين يتزلج في الشتاء.

وكنت أشعر بمرارة وإهانة. فماذا يفعل رجل موهوب جدي مهني ذكي وجميل الخلق في عالم «تاكي» الفارغ والضحل والمسطح مثل رصيف حديث التبليط. والحقيقة أنني شعرت باليأس من البحث عن تشارلز غلاس، هنا أو هناك إلا في «السيكتاتور» أو في «لندن ريفيو أوف بوكس»، بين حين وآخر. وشعرت في داخلي أن صدمة الخطف ربما دمرته إلى الأبد، وأن لا عودة من تلك التجربة، التي يرى فيها الإنسان البشرية في أحط مواضعها.

سررت وأنا أقرأ كتاب غلاس الجديد «أميركيون في باريس». لقد ترك الكتابة عن الشرق الأوسط والقبائل التي تحمل أعلامها، لكنه لم يترك تلك الموهبة الإبداعية ولا فقد ذلك الأسلوب الرقراق مثل أنهر الربيع. وقد سبقه إلى هذا الموضوع كثيرون. ومنذ سن العشرين وأنا أقرأ عن تلك الأسماء الأميركية التي لمعت فوق منائر باريس، ما بين الحرب الأولى والثانية. الأدباء والأديبات والكتاب والشعراء والمكتبات والمشردون والجائعون والأثرياء، الذين صنعوا تلك الحقبة الجميلة. ولكن تشارلز غلاس يقدم تلك الحكاية القديمة في مزهرية جديدة، طازجة ولها عبق وعطر. والأهم أنني اطمأننت إلى أن موهبة مثل موهبته عادت إلى العطاء ولم تعد مجرد ذكر اجتماعي سخيف في زاوية يوناني مغرور وله رنين التنك.