فوضى على كوكبنا: حين يكون (إطفائي) الحرائق العالمية (أخرق)!!

TT

سخِط أولئك أو رضِيَ هؤلاء، فإننا نجهر - في البدء - بأنه في هذه الظروف - الإقليمية والعالمية - يُعد وجود أمريكا (ضرورة أمنية) في عالم شديد الاضطراب، عالية معدلات غليانه وتفجره. كما كانت هذه الدولة أو (مسرح التناقضات العالمي) وفق تعبير بريجنسكي: المفكر الأمريكي المعروف، كانت (ضرورة أمنية استراتيجية في الحرب العالمية الثانية، لا الأولى)!! وكذلك كانت في أثناء صعود موجات المد الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي.. والاعتراض الذي ينشأ - تلقائيا - عند هذه النقطة - والاعتراض مقدر ووجيه - هو: ولكن مع وجود أمريكا بثقلها ووزنها العالميين: وُجد الاضطراب والغليان والتفجر، وأن الحالة العالمية الراهنة دليل على صحة ما نقول (أي أصحاب الاعتراض).. ولن نفجع المعترضين بنفي قولهم هذا، فإن نفي الواقع لا يسوغه عقل ولا ضمير ولا خلق، إلا أننا نقول: لولا وجود أمريكا هذه لزادت - بمعدلات أشد رعبا - حالات الاضطراب والغليان والتفجر في عالمنا هذا، ولغرق جنوب الكوكب وشماله في طوفان من الإفساد العام في الأرض، ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)).. بيد أن السؤال الاعتراضي الأهم والأحد والأكثر إحراجا - وأمانة أيضا - هو: هل نهضت الولايات المتحدة بمسؤولياتها العالمية، كما ينبغي النهوض (المتناسب مع وزنها وقوتها وإمكاناتها المتنوعة وأخلاقيات الإحساس الرفيع والصادق تجاه أكثر من ستة مليارات إنسان هم سكان الكوكب من الأناسيّ)؟.. إن الجواب الصريح - إلى حد الفجيعة - هو: لا.. لا.. لا لم تؤد الولايات المتحدة مسؤولياتها هذه كما يتوجب الأداء.. مثلا كان يتقاسم الاتحاد السوفيتي المسؤولية العالمية معها تجاه قضايا عديدة، فلما سقط الاتحاد: أتيحت لها فرصة تاريخية نادرة وعظيمة لكي تضطلع بمسؤولياتها العالمية بدون شغب أو استفزاز من خصم معطل مخذل: مواز لها في القدر، مضاد في الاتجاه، لكن المسؤولين السياسيين الأمريكيين ضيعوا هذه الفرصة التاريخية النادرة، فبدلا من مزيد من الشعور بالمسؤولية: تناقص هذا الشعور بسبب (الاطمئنان) إلى غياب الخصم من ساحة الصراع، وهو غياب أدى إلى (استرخاء) مهلك أو مرهق - للذات وللآخرين الأصدقاء -. ذلك أن (الاسترخاء) حالة مَرَضية تُقعِد أصحابها عن القيام بأدوارهم الواجبة: بفاعلية وحماسة ومثابرة وتفنن مستمر في آليات نقد التقصير، واجتراح ما هو أصلح وأسمى.. ولقد رد آرنولد توينبي (مرض) الحضارات الأوّل - في كل حضارة - إلى (حالة الاسترخاء).. وهو تحليل تاريخي حضاري صحيح.. ولنضرب مثلين اثنين معاصرين في هذا المجال: مثل أن وجود الشيوعية الدولية - أيدلوجية ودولة - جعل المؤسسات الدينية ورجالاتها يجتهدون في طرحهم الديني على نحو أقوى حجة، وأبعد عن التخدير والتنويم والسذاجة. فلما اندحرت الشيوعية عادت هذه المؤسسات ومنسوبوها إلى (الاسترخاء) المفضي إلى ضعف المنطق، وغباء الطرح، واضطراب السلوك.. المثل الثاني: أنه في ظل الوجود الشيوعي - الاقتصادي والسياسي -: احتشمت الرأسمالية، وغدت أقل توحشا، فلما سقط خصمها اللدود: عادت إلى الاسترخاء الذي دفعها إلى توحش جديد.. وقد كان هذا الاسترخاء سببا رئيسيا في حدوث الأزمة المالية الاقتصادية العالمية الراهنة.. وبديه أن هذا الكلام لا يعني المطالبة بعودة الشيوعية فهي خصم لنا - بالمعيار العقدي - قبل أن تكون خصما للرأسمالية - بالمعيار الاقتصادي -.. وإنما العبرة من ذلك كله: أن مقياس التقدم يتوجب أن يكون (ثابتا) باطراد، وليس مجرد رد فعل لعداوات ونزاعات معينة، وأن المسؤوليات ينبغي أن تؤدى في الأحوال كافة: في وجود الحروب الساخنة والباردة، وفي عدم وجود هذه الحروب.

قلنا: إن الولايات المتحدة لم تحسن استثمار الفرصة التاريخية والاستراتيجية والحضارية التي تهيأت لها - في لحظة زمنية قل أن تكرر -.. ومن الظلم البَواح لهذه الدولة أن نتهمها بهذا التقصير المروع بدون تقديم الأدلة على الاتهام.

والأدلة عديدة، لكن لما كان هذا المقال مختصا بما يمكن تسميته (عودة الإرهاب وصعود موجاته واتساع ساحته)، فإننا نقدم الدليل من صميم السياسة الأمريكية تجاه هذه القضية.. ونقدم بين يدي الدليل ملحظين اثنين:

1- إن تجريمنا للعنف الأعمى (الإرهاب) لا يستند إلى الدستور الأمريكي!!، وإنما يستند إلى مرجعيتنا العليا نحن المسلمين وهي الكتاب والسنة.. ففي القرآن: ((.. من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)).. ولفظ (نفس) منكّر: يشمل كل نفس - مسلمة أو غير مسلمة - يؤيِّد هذا المفهوم (الـ) الاستغراقية الشاملة لجنس (الناس).. يتعزز ذلك كله بالتعميم المطلق (جميعا).. ومعلوم أن النبي قد حرّم العنف بإطلاق - من عنف الكلمة إلى عنف السلاح -، وحرم الترويع ولو ضد عصفور، وحرم حرق النمل، إلى آخر التعاليم المناهضة للعنف.

2- أنه حين وقعت مصيبة 11 سبتمبر 2001 نصحنا الأمريكيين بأن (يتعقلوا) في مكافحة العنف لئلا تزيده الأساليب الخاطئة وقودا وجنونا. فبتاريخ 16\9\2001 - بعد الحادث النكد بخمسة أيام - كتبنا النصح الأمني السياسي التالي - في هذا المكان من هذه الجريدة -: ((ينبغي تأليف إرادة جماعية - حقيقية لا صورية - في مجال مواجهة الإرهاب.. إرادة جماعية دولية قوامها: التواضع لا الاستعلاء.. والتشاور لا التفرد.. والمساواة لا العنصرية.. أما إذا قام تضامن ضد الإرهاب على الغلط والعمى والهوس والجور، فإن رد الفعل اليقيني - المساوي في القدر، المضاد في الاتجاه - هو: قيام تحالف إرهابي عالمي أشد توحشا وهمجية ودموية. وعندئذ تصبح الكرة الأرضية ساحة واسعة لتصارع الثيران البشرية، وبقرون أسلحة الدمار الشامل هذه المرة)).

والآن: ما الدليل على التخبط الأمريكي في مجال مكافحة العنف الأعمى أو الإرهاب؟.. لقد تولت الولايات المتحدة قيادة هذه الجبهة على مدى عشر سنوات تقريبا.. فماذا كانت النتيجة؟.. كانت اتساع نطاق العنف في باكستان.. وصعود مد «القاعدة» وطالبان في أفغانستان صعودا أدى - مثلا - إلى استرضاء طالبان بحذف أسماء مجموعة من قادتها من قائمة الإرهاب (حدث ذلك في مجلس الأمن يوم الأربعاء الماضي).. ومن مؤشرات ارتفاع موجات الإرهاب: محاولة تفجير طائرة أمريكية فوق ديترويت بواسطة رجل نيجيري جندته «القاعدة» ودربته.. ثم.. ثم محاولة تحويل اليمن إلى ساحة جديدة للإرهاب، مما يكرر - ربما بصورة أفدح خطرا - مشاهد ما يجري في باكستان وأفغانستان (للأمريكان علاقة أمنية وثقى بحكومات أفغانستان وباكستان واليمن)!!.. ومما يؤيد هذا الدليل: تصريحات أمريكية رسمية.. فقد قال روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي: ((لقد ارتكبنا في باكستان أخطاء جسيمة)).. أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فقد اعترف بأخطاء استخباراتية رهيبة في ميدان مكافحة الإرهاب.. وقال - بالتحديد -: ((إن هذه الأخطاء ليست أخطاء أفراد وإنما هي أخطاء نظام)).. ومن أسوأ ما في الأمر أن دوائر أمريكية عادت إلى العمى الاستراتيجي الأمني السياسي الإعلامي نفسه: عمى الربط بين الإسلام والإرهاب، وهو ربط يرسخ الانطباع بأن الحرب على الإسلام لا تزال مستمرة، وعندئذ يتغذى الإرهاب بمزيد من الأغذية الفكرية والإعلامية الغبية.

إننا من جديد نجهر بالقول، ونؤذن في الناس - جميع الناس -: بأن الإرهاب سيزداد عتوا وفجورا إذا استمر مكافحوه في عماهم وخيبتهم وتخبطهم وأبحاثهم الخاطئة التي تثمر تدابير تخدم الإرهاب ولا تنهيه أو تحاصره.

طبعا.. لسنا ندعو إلى سحب اليد من التعاون مع أمريكا - وغيرها - ضد العنف الأعمى - والحرائق الأخرى -.. وإنما ندعو إلى مزيد من الشجاعة والصدق مع الأمريكيين.. ندعو إلى مصارحتهم بأن خراقتكم في التصدي للمشكلات العالمية أصبحت أمرا لا يطاق: وأن ترككم على ما أنتم عليه من أخطاء سيقود العالم إلى كارثة، ولكي لا نغرق جميعا من حيث إننا ركاب سفينة واحدة فإننا نطالبكم - كشركاء على هذا الكوكب -:

أولا: بتغيير أساليبكم الخائبة في مكافحة العنف الأعمى.

ثانيا: الكف عن تغذية الإرهاب بسياسات أمريكية حمقاء كتلك التي تضحي بأمن أمريكا والمنطقة والعالم من أجل أهواء حفنة من غلاة الصهيونية وصلوا إلى السلطة في تل أبيب.. نعم هي سياسات أمريكية خرقاء تبدت بغلظتها وخيبتها – مجددا - في خطاب (الاتحاد) الذي ألقاه الرئيس الأمريكي يوم الخميس الماضي والذي غاب عنه - تقريبا - بند (السلام)! في الشرق الأوسط، وهذا غياب أو انسحاب لن يخدم مصالح أمريكا، ولا استقرار المنطقة، ولا إسرائيل نفسها، وإنما يخدم - فحسب - غلاة الصهيونية.

ثالثا: الاعتراف بالخيبة.. على أن يترتب على الاعتراف: بناء دبلوماسية جديدة عمادها (التشاور الجدي) مع أهل كل إقليم: تشاورا ينتهي إلى رؤية صحيحة مشتركة لا غبش فيها ولا عمش.. واعلموا.. اعلموا أن بديل ذلك هو الطوفان المدمر الذي سيغرقكم والعالم كله معكم.

وإلى أن يتحقق ذلك، على كل دولة أن تكون لها أجندة وطنية مستقلة في هذا المجال.. ولقد ثبتت جدوى هذه الأجندة بالنسبة للسعودية التي شهد مسؤولون أمريكيون بنجاحها ونجاعتها.