لجان التحقيق وشهادة التاريخ

TT

أكتب المقال عشية مثول توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق أمام لجنة السير تشيللكوت المستقلة للتحقيق في الظروف السياسية والدبلوماسية والقانونية في الأشهر التي سبقت حرب العراق الأخيرة (تسمية الصحافيين) أو حرب «التحرير» من طغيان البعث (تسمية الأكراد وشيعة جنوب العراق، والأقليات غير العربية).

وتتعدد الأسباب ومأساة الحرب واحدة، سواء لأسر الجنود البريطانيين أو العراقيين أو المدنيين الذين استهدفتهم قنابل الإرهاب، ولا شك أن سوء التخطيط الأميركي وعدم الأخذ بنصائح الخبراء البريطانيين ساهما في معاناتهم.

الإخفاق الأخير أيضا في إطار تحقيق لجنة تشيللكوت. وهناك تحليل، يستند لأدلة مقنعة مفاده أنه إذا لم تشترك بريطانيا وذهب الأميركيون للعراق وحدهم لكان الوضع أسوأ مائة مرة مما هو عليه الأمر الآن، وهذا ليس موضوع المقال.

ما يهمني التذكير به أن التحقيق هو الرابع في دخول بريطانيا حرب العراق، لكنه الأوسع في الصلاحيات والأدق في التحقيق في التفاصيل.

استدعت اللجنة كبار موظفي الحكومة والساسة والدبلوماسيين، السابقين كبلير ووزرائه ومحامي الحكومة العام، أو الحاليين كوزير العدل جاك سترو ووزير الخارجية دافيد ميلليباند ورئيس الوزراء الحالي نفسه غوردون براون الذي يُتوقع استدعاؤه في غضون أسابيع.

اتضح أن السير مايكل بويس رئيس أركان القوات المشتركة عام 2003 كان في مكتب بلير يرفض إعطاء الأوامر بالتحرك قبل تأكده رسميا من قانونية الحرب وسماعه من فم محامي الحكومة كلمة «نعم» أو «لا» بشأن شرعية الحرب في إطار القانونين البريطاني والدولي.

ليس للجنة صلاحيات الضبطية القضائية، أي لن تقدم أحدا للمحاكمة وإنما الغرض من جلساتها - العلنية المبثّة على الهواء - ومراجعتها الوثائق هو ملأ الثغرات التي تكون التحقيقات الثلاث السابقة قد تركتها من أجل كتابة فصل تاريخ هذه المرحلة - 2001، 2003 - بأقصى دقة ممكنة رجوعا لكل الحقائق والوقائع والشهادات التي تجمعها كي يعرف الشعب الحقيقة وتتعلم الأجيال المقبلة الدرس فلا تتكرر الأخطاء.

ربما ما يهم القراء الأعزاء هو المقارنة بالتساؤل عن حروب بلدان منطقة الشرق الأوسط نتيجة أخطاء، لا تزال تتكرر، تدفع الشعوب ثمنها باهظا.

ونتيجة غياب تحقيقات لتعلم الأخطاء تكررت حروب كان يسهل تجنبها سواء عبر الحدود كـ 1948 ، 1967 ،1956، 1980، 1990 أو أهلية تدخلت فيها قوى إقليمية كحروب لبنان في السبعينات واليمن عام 1963 ودارفور حاليا (تعمدت ترك حروبا اضطرارية لتصحيح نتائج حروب أخرى كـ 1973 وتحرير الكويت 1991) .

ولا أعتقد أن أيا من الحكومات والجهات القضائية الرسمية أو حتى البرلمانات المنتخبة (وبعضها إما ختم مطاطي أو صوري لانتخابه بمحاصصة طائفية أو مهمته عرقلة عمل الحكومة فقط لا غير) مؤهلة لتأليف لجان تحقيق كلجنة تشيللكوت.

وإذا تألف بعضها في الثقافة السياسية السائدة سيكون بغرض إدانة نظام سابق لتحسين صورة نظام حالي.

اكتشفت أثناء فترة البحث لكتبي الستة - صدرت ما بين أعوام 1983 و 1995- غياب أي وثائق رسمية أو استحالة العثور عليها (كإضاعة الوقت والجهد بين التراب والجرذان والحشرات في دار الوثائق المصرية في الثمانينات)؛ ولذا فالموجود أو الأقرب لسد فجوات التاريخ هو شهادة من بقي على قيد الحياة من الساسة السابقين.

أثناء بحثي كتاب حروب المياه الصادر عن دار جولانص في لندن 1993 Water Wars, Victor Gollancz, London 1993)) قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون عام 1992 (وكان وقتها مغضوبا عليه وهجر السياسة متفرغا لمزرعته): إن المياه كانت سببا رئيسيا لحرب 1967 كذروة لأسابيع من المناوشات بالمدفعية بين إسرائيل وسورية بسبب عمل جرافات الأخيرة في تحويل مجرى اليرموك عن بحيرة طبرية، وشاطئها الشمالي خط الهدنة 1948 بين إسرائيل وسوريا.

وجدت ذلك أيضا في مراسلات السفارة البريطانية والروسية والأميركية وقتها. لكنني فوجئت بقوله: إنه لم يكن في نية الإسرائيليين خوض حرب ضد مصر، ولم تكن هناك أي حشود عسكرية إسرائيلية على الحدود مع مصر ولم يكن في نيتها أيضا محاربة الأردن (الوثائق المحايدة أكدت مسألة غياب حشود عسكرية على حدود سيناء أو الضفة الغربية)، وأضاف أن طرد الزعيم المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر لمراقبي الهدنة من سيناء وحصاره ميناء العقبة الإسرائيلي بحريا هو ما اضطرهم لدخول الحرب.

وكان رافاييل آيتان، رئيس الأركان الإسرائيلي السابق أيضا أشار إلى المناوشات حول المياه المتدفقة إلى طبرية كسبب مباشر لحرب 1967، وقت أن كان خصما لشارون يتمنى الإضرار به لا الدفاع عنه، لكنه لم يناقض كلام شارون عن دخول مصر والأردن الحرب.

وفي غياب أدلة أخرى غير قابلة للشك ووثائق محددة، لا أزعم أنني أصدق رواية شارون أو أفضلها على الأسباب التي ساقها الكولونيل عبد الناصر في خطبه العامة.

فلا توجد محاضر رسمية أو وثائق في أرشيف مجلس الوزراء المصري أو مذكرات متبادلة بين وزراء سابقين في الحكومة الناصرية (أجريت مقابلات وثائقية مع وزراء سابقين كشعراوي جمعة، وحسن صبري الخولي والدكتور محمود رياض) فلم يكن لديهم أي وثائق أو رسائل متبادلة بشأن الفترة التي سبقت حرب 1967 وإنما كانت التعليمات شفهية وتعليمات بالتليفون من رئاسة الجمهورية!

الوثائق البريطانية المتاحة تنقل تحليلات السفارات البريطانية في البلدان المشتركة في الحرب وتقف عند ادعاء عبد الناصر عن مشاركة طائرات بريطانية ضد مصر (ادعاء غير صحيح بشهادة المرحوم الدكتور محمود رياض الذي أشاد بموقف بريطانيا في مجلس الأمن ومعاونة اللورد كارادون له لصياغة القرار 242 حسب المطالب المصرية) ، لكنها لا تفيد في الحسم حول شهادة شارون.

ولا أدعي امتلاكي لحل سحري لمسالة غياب الوثائق إذا ما تقدمت مجموعة أو هيئة مستقلة لها الإمكانات لإيضاح الحقائق للشعوب عن أسباب الخسائر التي يدفعون ثمنها باهظا (قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الانتداب ممثلا خصص للفلسطينيين مساحة أكبر من مساحة إسرائيل الحالية وقبوله كان سيوفر ما أنفق على حروب متتالية وخسائر في الأرواح، وادعاء شارون أن حرب 1967 كان يمكن تجنبها، وخسائر حرب عبد الناصر في اليمن).

ولمثقفي بلدان الشرق الأوسط ومؤرخيها من القدرات الذهنية والإمكانات الأكاديمية وأدوات البحث ما يتيح لهم فرصة تشكيل لجان بحث متعددة الجنسية ومستقلة، لإيجاد وسائل دقيقة لمعرفة الحقائق وتجميع أقوال الشهود الأحياء ومذكرات الراحلين؛ للإجابة على أسئلة مضى على طرحها أكثر من ستة عقود، ولا خوف من تقديم أحد للمحاكمة عند الإجابة عليها، حتى ولو من أجل ملأ الصفحات الخالية من فصول تاريخ المنطقة ما بين 1947 و1983 (تاريخ أول اتفاقية سلام فلسطينية إسرائيلية).

فهل من يقبل التحدي؟