أمين معلوف واختلال العالم

TT

أقل ما يقال فيه الآن هو أن العالم مليء بالفوضى والاضطرابات والمشكلات. وكنا نتوقع أنه بعد نهاية الحرب الباردة سوف يسود السلام والديمقراطية والحرية كل مناطق المعمورة. هل نسينا النبوءات المتفائلة لفرنسيس فوكوياما؟ ما سبب ذلك يا ترى؟ على هذا السؤال الأساسي يحاول أمين معلوف أن يجيب في كتابه الأخير: اختلالات العالم. على الرغم من أن الرجل يقدم نفسه كأحد أبناء التنوير فإنه يوجه انتقادات لاذعة للحضارة الغربية. فقد خانت هذا التنوير ومعظم مبادئها في تعاملها مع الشعوب الأخرى ومن بينها الشعوب العربية والإسلامية. إنها لا تطبق مبادئها التنويرية إلا في الداخل، أي على شعوبها بالذات. أما عندما يتعلق الأمر بالآخرين فإنها تنسى مبادئ الحق والعدل والحرية والديمقراطية والمساواة والإخاء. فهذه القيم ليست للشعوب المتخلفة من أمثالنا. إنها فقط للشعوب الحضارية! نحن يكفينا التخلف والاستبداد والجهل والفقر. وعلى عكس الفكرة الشائعة في العالم العربي فإن القوى الأوروبية العظمى لم تحاول فرض قيمها علينا إبان المرحلة الاستعمارية. وإنما فعلت العكس تماما: لقد منعتنا من تبني هذه القيم الكونية في الحرية والتنوير والديمقراطية وخانتها أثناء تعاملها معنا. كيف يمكن فهم هذا الموقف التناقضي؟

فالغرب بعد إقلاع الهند والصين مؤخرا يخشى أن يفقد هيمنته على العالم. وأنا واثق أنه سعيد جدا بظاهرة القاعدة وبن لادن أو قل إن الأطراف اليمينية الوقحة فيه سعيدة تماما بذلك وتستغله أفضل استغلال كما قال صالح القلاب هنا بالذات.

إن تشخيص أمين معلوف لمرض العالم العربي ومرض الغرب أو الاختلال الذي يصيب هذا وذاك يبدو لي مقنعا. لا ريب في أنه لا يموضع كلا الاختلالين على نفس المستوى. فالغرب حقق إنجازات حضارية ضخمة على الأصعدة والمستويات كافة، طيلة القرون الثلاثة الماضية، في حين أننا نحن العرب لم نحقق شيئا يذكر بعد انهيار حضارتنا الكلاسيكية. نحن في أسفل الحضيض الآن. وبالتالي فلا وجه للمقارنة من هذه الناحية. ولكن الشيء الأخطر الذي يعيبه الكاتب اللبناني الشهير على العالم العربي هو الفقر المدقع لضميره الأخلاقي حاليا. وأما ما يعيبه على الغرب فهو أنه يستخدم ضميره الأخلاقي كأداة للهيمنة على الآخرين. ففي الخطابات العربية المعاصرة نادرا أن تجد الهمّ الأخلاقي أو الإشارة إلى القيم الإنسانية الكونية حاضرا. وأما الخطاب الغربي فمليء بها ولكنها مستخدمة بشكل انتهازي وانتقائي لتحقيق المصالح السياسية أو المطامع الاقتصادية الشرهة التي لا تشبع. نقول ذلك ونحن نعلم أنه لا توجد حقوق إنسان بالنسبة لأوروبا، وحقوق إنسان بالنسبة لأفريقيا، أو أميركا اللاتينية، أو العالم العربي إلخ. حقوق الإنسان واحدة وينبغي أن تنطبق على الجميع. الإنسان له كرامة وينبغي أن تحترم في كل مكان. ولكن الغرب يقول لك إن الشعوب العربية أو الإسلامية غير ناضجة حضاريا، وبالتالي غير مهيأة لتقبلها أو لتبنيها. ولهذا السبب فإنه يغض الطرف عن انتهاكها من قبل بعض الأنظمة وبخاصة إذا كانت صديقة..

هل تريدون مثالا تطبيقيا عمليا على اختلال العالم العربي واختلال الغرب؟ انظروا إلى الحالة العراقية. التيار اليميني المتطرف في الغرب يصفق في أعماقه لانفجار العنف الطائفي الذي حصد حتى الآن عشرات الآلاف من أبناء العراق. ولكن ماذا عنا نحن؟ ألا يصفق الكثيرون لجماعة الكاميكاز عندما يذهبون بسياراتهم المفخخة إلى الأسواق لتفجيرها كيفما اتفق وسط العائلات والنساء والرجال والأطفال؟ ألا يعتبرونهم مقاومين وشهداء وأبطالا؟ من هو المسؤول بالتالي عن العنف الطائفي؟ هل هو الداخل أم الخارج؟ الداخل بالدرجة الأولى، وإن كان الخارج يعرف كيف يستغل ذلك لمصلحة سياسته الميكيافيلية من أجل تمزيقنا. لكن يبقى السؤال الفاجع، السؤال المدمر هو التالي: لماذا لم تتقدم الحضارة الغربية أخلاقيا مثلما تقدمت علميا وطبيا وتكنولوجيا وكل شيء؟ هذا السؤال كان جان جاك روسو قد استبق عليه بحدسه التوقعي الاستشرافي في خطابه الأول الشهير وهزّ به عصره هزا.