لنا الذيل دون العالمين..

TT

والمقصود هنا ذيل القوائم في مؤشرات المعرفة الرقمية والعلمية المعاصرة في عالمنا العربي. فقد اطلعت على تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل المكتوم عن المعرفة الرقمية لعام 2009، فانتابني شعور بالأسى والحزن وطول الطريق. كتب التقرير مجموعة محايدة من المفكرين العرب من مناطق مختلفة، حيث يعتمد الباحثون على تعريف اليونسكو للمعرفة بأنها استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة كوسيلة أساسية من وسائل الاقتصاد الحديث لبناء المجتمع المعرفي الحديث.

يربط التقرير التطور المعرفي بمؤشرات أربعة أساسية في مجالات الحرية: حرية الإعلام، وحرية المعلومات، والحرية السياسية، والحرية الاقتصادية.

على مستوى الحريات الإعلامية يحتل عالمنا العربي ذيل القوائم «بكل جدارة ويسر»، فلم تحصل دولة عربية واحدة على درجة «جيد»، وحصلت دولتان فقط على درجة مقبول، بينما تراوحت درجات الدول العربية العتيدة الباقية بين ظروف صعبة وظروف خطيرة جدا تعيشها الحرية الإعلامية. وتسيدت دولنا ذيل القائمة في مؤشرات الفساد، حيث احتل العراق المركز الأخير - تصحيح: تلا العراق أفغانستان والصومال وميانمار في المؤخرة.

على صعيد الحريات السياسية، لم يأتِ التقرير بجديد حول غياب الحريات والمشاركة السياسية الحقيقية التي ترتبط ارتباطا مباشرا بتطور المعرفة الرقمية. وتغيب الحرية الاقتصادية في عالمنا في دهاليز البيروقراطية والتخلف والفساد والرشاوى.

17% فقط من عالمنا دخلوا دنيا الإنترنت، متخلفين بذلك عن بقية العالم بخمس نقاط، حيث يتطرق التقرير إلى تراجع في نسبة الأمية، لكن ما زال 60 مليون عربي غالبيتهم من النساء أميون، كما يحرم 9 ملايين طفل عربي من الدراسة بشتى أنواعها. وعلى الرغم من تراجع الأمية، فإن التعليم لا يزال متخلف المناهج، يفتقر إلى فلسفة عصرية للتعليم، ويركز على العلوم الإنسانية لا العلوم الطبيعية، وينتهج التلقين والحفظ، لا التفكير النقدي والتحليل. وتستحوذ المعارف والعلوم الإنسانية المكررة على النسبة الغالبة من مواد التعليم الجامعي الذي ازدادت أعداد مرتاديه وخريجيه «كغثاء السيل» لغياب التعليم النوعي والصد عن العلوم الطبيعية والمعرفية العلمية التي يمكن أن تساهم في خلق المجتمع المعرفي. فامتلأت الشوارع العربية بملايين من الشباب الخريج الذي يبحث عن فرصة عمل تتناسب مع ما درسه، لكن سوق العمل الحديثة لا يمكنها استيعاب خريجي الجامعات التقليدية التي لا يجيد بعض أساتذتها استخدام الإنترنت بعد. ويشير التقرير إلى «هجرة أدمغة عربية»، فبلغت نسبة الطلبة العرب المبتعثين الذين لا يعودون إلى أوطانهم 45%، غالبيتهم من دول الخليج.

تذكرت في أثناء قراءة التقرير قصة اجتماع للمجموعة العربية المشاركة بمؤتمر اليونسكو المنعقد في ستوكهولم عام 1998 وكنت مشاركا فيه. قال أحد المشاركين العرب: علينا أن نفرض على المؤتمرين في بيانهم الختامي ضرورة أن يكون الإنترنت باللغة العربية! استغرب من كان مشاركا في الاجتماع: كيف تفرض لغتك على الآخرين؟ وهل يعمل الآخرون خدما عندنا كي يخترعوا ويكتشفوا حسب أهوائنا؟ ولم لا نصنع نحن تعريبا للإنترنت إن كنا حريصين حقا على لغتنا وعلى التطور العلمي؟ مرت السنون، وتعرّب الإنترنت، وتصيّن وتجبّن (صار صينيا ويابانيا) وأصبح يعمل بكل لغات العالم الحية والميتة. كان المشارك العربي الغيور على لغته يمثل دولة لا تسمح في حينها بتملك جهاز الفاكس دون إذن مسبق من المخابرات في تلك دولته!

استعراض بعض جوانب الحالة المعرفية العربية ليس «جلدا للذات»، لكن الواقع مر ومحزن، وبداية معالجة هذه الحالة تبدأ بالتشخيص السليم لها. لأن معظمنا ما زال يظن «أن لنا الصدر دون العالمين»، وهذا وهم كبير - خصوصا من الناحية المعرفية.