كان ترابا.. صار ترابا!

TT

عندما زرت مقبرة الشاعر الإيطالي دانتي الليجيري (1265 - 1321) كانت رائحتها خانقة. فليس فيها شباك واحد، ولم ترَ ولم تسمع عن الهواء منذ عشرات السنين. سألت: قالوا: إنما أردنا أن نجعل الزائرين يشعرون برائحة جهنم كما أرادها الشاعر في ملحمته الكبرى: «الكوميديا الإلهية» أو «الكوميديا المقدسة». فالجزء الأول منها هو جهنم، وهذه هي رائحة جهنم أو هي الرائحة التي تجعلنا نفرّ من مواصلة السير في ملحمة دانتي..

وعندما زرت مقبرة الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي (1213 - 1292) كانت في فردوس من العطور والزهور والطيور وخرير المياه. كأن الشاعر لا يزال حيا.. إن هذه الجنة من صنعه. أرادها حيا وأرادها من بعده لمن جاءوا يقرأونه السلام..

وفي ألمانيا يدعونك لزيارتهم في بيوتهم التي عاشوا وماتوا فيها. سألت عن قبر الشاعر هيلدرلن، فأخذوني إلى بيته في مدينة تينجن على نهر السالزاخ. والبيت ليس متحفا، وإنما غرفة واحدة، عاش فيها ثمانين عاما، نصفها كان عاقلا وفى النصف الآخر كان مجنونا..

ولا أعرف أين دفن أمير الشعراء شوقي (1868 - 1934) ولا شاعر النيل حافظ إبراهيم، ولا الشعراء: إبراهيم ناجي وأحمد رامي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وكامل الشناوي.. ولا بد من أنها قبور عادية؛ لا ورود ولا زهور ولا نوافير للماء.. ولكن لماذا؟

قال أمير الشعراء أحمد شوقي:

إذا ما نفقت ومات الحمار

أبينك فرق وبين الحمار؟!

في الأرض طبعا لا فرق. أي يستوي عند الفقيد أن يدفن في الحدائق أو في بطون السمك!

ولما كتبت وصيتي وطلبت أن أحرق أنا وكتبي معا، فلا استفدت ولا أفدت بها ولا تعلمت، وإنما أضعت العمر بين الورق والحبر.. فكنت حبرا على ورق أو ورقا تحت الحبر.. أو لا حبر ولا ورق، قالوا: مجنون كافر.. مع أنني مؤمن تماما. ولكن الذي أودعت عنده الوصية اكتفى بإحراقها. وترك الباقي لمن هم أكثر فهما وقدرة على الدفاع عن هذه الوصية!

وفي الوصية أن يكتفوا بوضع رمادي أو رفاتي في زجاجة صغيرة ومعها هذه العبارة: «كان ترابا صار ترابا!»