المجتمع العربي.. والمجتمع الدولي!!

TT

في كل مرّة تنتاب بلد عربي أزمة من أي نوع، تتخذ القوى الغربية الخطوات السريعة لعقد مؤتمر ينتهي بحلّ معد مسبقا، ولتمويل هذه الحلول، ويعقد المؤتمر عادة في لندن أو باريس، رغم أن التجارب قد أثبتت، مرة بعد أخرى، أن الحلول التي تقارب الأزمة عن بُعد جغرافي وتاريخي وحتى سياسي لا يمكن أن تكون ناجعة. كما أثبتت التجارب أن الأرقام، وليست الأموال فقط، الممنوحة بسخاء لمعالجة هذه الأزمات بقيت ككل الوعود الغربية حبرا على ورق، وأحيانا ربما من الأفضل أن تبقى حبرا على ورق من أن ترسل، لما اعتادوا على تسميته «دعم الأقليات» التي تعني في النتيجة إثارة الفتن بين الأهل والجيران الذين يُحرّضون اليوم على أن يعودوا إلى هوية أقلّ شأنا بكثير من الهوية العربية الإسلامية التي يمتلكونها وإلى كانتونات ضيقة لا تخدم سوى الطامعين فيهم جميعا. فقد أقرّ، على سبيل المثال لا الحصر، وزير خارجية اليمن أبو بكر القربي في المؤتمر الذي عُقد في لندن مؤخرا حول اليمن «أن المساعدات التي تقررت في مؤتمر الدول المانحة عام 2006 وقيمتها 5 مليارات دولار، لم تترجم إلى إجراءات ومشاريع تنموية». ومع ذلك فإن المؤتمر يعقد اليوم ومرة أخرى في لندن، ومن هنا نتفهم قلق القربي بأن تصبح بلاده «دولة فاشلة». والعبارة الأساسية التي لا بد من التأمل فيها هي «المجتمع العربي والمجتمع الدولي» حيث تتفق كل الدعوات لهذين المجتمعين بتحمّل مسؤولياتهما تجاه البلد العربي الذي حلّت به أزمة أو أخرى. إذ في الوقت الذي اختلطت الأوراق بين المجتمع العربي والدولي من ناحية التنسيق الأمني، والعمليات السرية، والعمليات العسكرية المشتركة وخاصة في مجال الاستخبارات، فإن المصالح العربية الحقيقية تتناقض تناقضا واضحا مع الخطط التي تُحاك وتنفذ ضدّ بلداننا تحت مسمّيات مختلفة من محاربة «القاعدة» التي ورثت عن «الشيوعية» لقب عدو المجتمع الدولي، إلى التعاون الاستخباراتي، وإلى التنسيق في مجال حقوق الإنسان، وكذلك المعونات الاقتصادية التي تنفق معظمها لتكريس التبعية العربية لمراكز الهيمنة الغربية.

وإذا أردنا أن ننظر إلى مجريات الأمور في الوطن العربي ومواقف القوى المسيطرة على القرار «الدولي» بشكل أو بآخر منها، نرى أن العرب والمسلمين جميعا يقعون في بوتقة الإنسان الأفريقي الأسود، كما كان يُصنّف قبل عام 1964 في الولايات المتحدة الأميركية. لا بل هم يقعون في خانة أسوأ، والتمييز العنصري الذي يمارس عليهم اليوم باسم الإجراءات الوقائية من الإرهاب، لم يكن يمارس على الإنسان الأفريقي في أميركا أيام التمييز العنصري هناك. فهل يعقل أن يُراقب مواطنو دول عربية ومسلمة طيلة الرحلة في الطائرة إلى الولايات المتحدة ويُمنعون من تغطية أنفسهم بالبطانيات أو الذهاب إلى الحمام طوال ساعات قبل الهبوط. كما تشمل تفتيشات مهينة مثل «تفتيش المؤخرات وتعرية الجسد بالإشعاع». أوَلا يذكّرنا هذا بالأدب الأفرو-أميركي الذي وصف لنا كيف كان الإنسان الأبيض يصوّر الإنسان الأسود بأنه بلا روح، وبلا قلب، وبلا مشاعر توازي مشاعر الإنسان الأبيض بالكرامة، وألا يذكرنا هذا بكلّ النظريات العنصرية التي تروّج أن المسلم يهوى الموت، وأن النساء الفلسطينيات يحتفلن باستشهاد أطفالهن ويدفعن بهم إلى الموت، ولا يذكر في أي من هذه الأطر حجم الإذلال الذي تعرّض له هؤلاء الضحايا وبسببه وجدوا الموت أسهل وأكثر صونا لكرامتهم من المهانات الشائنة التي يتعرضون لها. وفي كل هذه الإجراءات يُلخّص العالمان العربي والإسلامي بكلمتين لا ثالث لهما، هما «العرب والمسلمون» لا فرق بين دولة مهادنة وأخرى ممانعة، وتُرسّخ النظرة الدونية والعنصرية ذاتها لجميع هؤلاء ويُعاملون بالطريقة ذاتها.

بالمقابل، حين تدخل العالم العربي من البوابة الاستعمارية الغربية، تتفتح أمامك هويات، وأعراق، وأديان، ومناطق ضمن البلد الواحد، فيتحدث الغرب عن السنّة، والشيعة، والمارونيين، والمسيحيين، والحوثيين، والأقباط، والأكراد، والأرمن، والإسلاميين، والعرب، والأفارقة، وأهالي الصحراء، وأهالي الجبال، وأهالي الضفة مقابل أهالي غزة، والمرأة المحجبة مقابل غير المحجبة، والنقاب مقابل السفور، وتواجهك الخنادق والجدران والأسلاك بين أبناء الأمة الواحدة. وتعلو أهمية ترسيم الجدران وتحديدها وإقامتها، وكأنها برنامج سياسي اقتصادي دولي مفروض على الدول العربية كافة، بينما تعمد بلدان التكتلات الإقليمية في كلّ منطقة في العالم إلى إلغاء الحدود فيما بينها وتوسيع فضاء حرية العمل والسفر والثقافة والحياة، الذي يزيد أبناء هذه الدول اعتزازا وكرامة ورخاءً أيضا.

وفي الوقت الذي يرفض الأخ أن يجلس مع أخيه ليتحاورا في مسائل لا تختلف في نتائجها على مصير أي منهما، يرحب بالخصم والعدو الملطخة أيديه بدماء الأطفال العرب، الذي ما يزال يحتل قدسه وترابه رغم وجود حقيقة ناصعة، وهي أن التعامل مع جميع الأطراف العربية، المسالمة والممانعة على حد سواء، وفي جميع المجالات، ينطلق من النظرة العنصرية ذاتها التي يحددها الغرب للعربي والمسلم، لا بل إن هذه الإجراءات العنصرية تصيب حتى المسافر الأجنبي الذي مرّ خلال سفره بإحدى عواصم العرب والمسلمين، حتى وإن لم يكن منهم، فهو عرضة للريبة والتفتيش والشكوك، وكأن العروبة والإسلام وباء معدي يتلوث به المسافر. ما العنصرية إذا لم تكن التمييز على أساس الهوية أو اللون أو العرق أو الجنس؟! وللذين يعتقدون أن لهم صفحة بيضاء لدى خصومهم ليس عليهم إلا أن يتذكروا تاريخ الأندلس، وكيف أن الفرقة والتشرذم قد أوديا بالجميع في النهاية ولم تكن الصداقات والتحالفات مع العدو سوى مسائل مرحلية للقضاء على فريق بعد الآخر، وعليهم أن يتذكروا مصير صدام الذي كان الصديق المدلل للغرب طوال سنوات الحرب على إيران ليس إلاّ؟!

الكارثة النهائية قد تستغرق عقودا حتى تكتمل، ولكنّ كلّ حريص على هذه الأمة يعلم أننا بدأنا نشهد فصولها الأولى. إذ في الوقت الذي تردّ إسرائيل، بدعم من المجتمع الغربي «المتحضر»، على تقرير غولدستون وترفض إقامة محاكم لمجرمي حربها، وفي الوقت الذي ترفض بعناد طلب الرئيس أوباما بوقف الاستيطان، وتصوّر القدرة العلمية الإيرانية، التي هي دعم للمسلمين جميعا، بأنها الخطر الوحيد في المنطقة، وتدخل اللغة الصينية في مدارسها استعدادا للعقود القادمة، يغرق العرب في خندق هنا، ويختبئون وراء جدار فولاذي هناك، ويظهرون شدتهم على الأخ والصديق، بعكس الوصية الإلهية الموجهة لهم في الآية القرآنية الكريمة «أشداء على الكفار رحماء بينهم» فتراهم يقتتلون في معارك تحت مسميات مختلفة، لا تخدم في النتيجة سوى ذاك الذي يُخطط من خلف البحار بالتعاون مع هذا الغريب الذي يحتل أرضهم، ويعذّب أسراهم، ويقطع أشجارهم، ويذلّ نساءهم ومسنّيهم وهو يضحك في داخله من فرقة هؤلاء وضعفهم في التعامل معه. الحلّ الوحيد اليوم هو أن نمتثل لإرادة الغرب في قضية أساسية واحدة، وفي ذلك أتفق مع من يحبّ أن يتبع النهج الغربي ولمن يؤمن بهم وبتصنيفاتهم، وهي أننا جميعا «عرب ومسلمون» وأن عروبتنا هي الضامن الوحيد لنا، وأن تكاتفنا وتآزرنا هو طريق الخلاص الوحيد لنا مهما كانت الاختلافات في وجهات النظر بالوصول إلى الخلاص، فلا شك أن الخلاص يكمن في أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا. لقد أصبح من العار رؤية امرأة فلسطينية تقاوم شرذمة من المستوطنين المجرمين، وأصبح من المخزي أن نترك أسرى فلسطينيين يصارعون الموت والذل في سجون الاحتلال وكأننا نقول لهم جميعا «اذهب أنت وربك فقاتلا»! إن مصير غزة اليوم هو مصير كل واحد منا غدا ما لم نغيّر ما بأنفسنا.. والتغيير هو أن نمتلك الرؤية الاستراتيجية كي نقول: يجب ألا تبقى ملفات العمل العربي المشترك مؤجلة بينما ملفات الفرقة والفتنة والاقتتال مستعجلة!