توني بلير.. صمت دهرا ونطق كفرا

TT

«أكثر الناس ارتكابا للأخطاء هم أولئك الذين لا يعترفون بأنهم أخطأوا»

(لاروشفوكو)

هناك نوع من المكابرة يستحيل إيجاد وصف مهذب لها.

فعندما يتداعى المجتمع الدولي كله لبحث احتواء خطر «القاعدة» وطالبان من خلال مؤتمرين استضافتهما بالأمس العاصمة البريطانية لندن، الأول حول اليمن والثاني في شأن أفغانستان. وبينما ترتبك القوى الكبرى وتنقسم أمام «شطارة» إيران الابتزازية في مسألة تطويرها قدراتها النووية. وعندما يدفع التطرف الإسرائيلي الفاشي الفلسطينيين أكثر فأكثر نحو الخيارات اليائسة في وجه عجز - أو جبن - العواصم الغربية المؤثرة عن فرض الحل العادل والدائم.. يطل رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، خلال الأسبوع الماضي - من قلب لندن أيضا - ليدلي بإفادته أمام «لجنة التحقيق الخاصة بالعراق» برئاسة السير جون تشيلكوت.

من مضمون تصريحات بلير السابقة في هذا الموضوع كان مستبعدا أن «يتلو فعل الندامة» أمام لجنة التحقيق. غير أن ما فاجأ الذين توقعوا منه الحد الأدنى من التواضع والإقرار بواقع خطير ملموس، تؤكده جثامين العسكريين البريطانيين المحمولة من أفغانستان، وقبلها من العراق، ناهيك من الضحايا البريئة التي تسقط أسبوعيا في تفجيرات مجرمة مجنونة، هو المكابرة الفظيعة التي شملت زعمه أن غزو العراق «جعل العالم مكانا أكثر أمانا»!

أكثر أمانا؟.. بالمقارنة مع ماذا؟ ووفق أي معطيات؟

كلام آخر مستغرب قاله بلير يستحق التوقف عنده «هو أن الحكام العرب كانوا مع إسقاط الحكم العراقي». وهو في سياق منطق بلير للدفاع عن موقفه، يوحي بوجود أغلبية شعبية عربية مع خيار إسقاط ذلك الحكم. لكن بلير نفسه، وكذلك رفاقه من أصدقاء إسرائيل في الغرب، طالما وصفوا إسرائيل بأنها «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».. فكيف العمل مع الشيء وعكسه!؟

المسألة هنا لا علاقة لها بما إذا كان نظام، مثل نظام صدام حسين، يستحق أن يبقى أو يجب أن يُزال. أو ما إذا كان ذلك النظام شكل أو يشكل أو سيشكل خطرا على مواطنيه وعلى جيران العراق.

فالنظام الصدامي أجاب بأفعاله على هذين السؤالين.. عمليا، وبصورة لا تدع مجالا للشك. وأكد أنه طغمة تعيش خارج الزمان، وخارج المنطق، وتسيطر على موقع جغرافي خطير ذي أهمية استراتيجية استثنائية. ولكن الجملة الأخيرة بالذات تستدعي من أهل السياسة الحكيمة - وهنا لا نتكلم عن السياسة الأخلاقية إن وجدت - وقفة مع الذات ومع الناس.

في السياسة، كما في لعبة الشطرنج أو لعبة النرد (طاولة الزهر)، لا يجوز ترك «خانة» فارغة. وترك أي «خانة» فارغة يعني دعوة الخصم لاحتلالها. وفي حالة العراق المعاصر، الذي أسهم في «صنعه» ورسم خريطته ثلاثة بريطانيين هم: السير بيرسي كوكس والسير مارك سايكس و«الخاتون» غيرترود بل، لا أحد يقدر أهمية العراق الجيو - سياسية مثل بريطانيا. ولا أحد هضم تاريخه واستوعب كيمياء مكوناته البشرية مثل المؤرخين والباحثين والساسة البريطانيين.

وبالتالي، فإن كلام البعض في الحكومة البريطانية الحالية، وكأن ما حدث في العراق منذ إسقاط حكم صدام حسين جاء «مفاجئا» لدوائر القرار، وبالأخص في لندن، كلام عبثي غير معقول.

وإذا كانت لندن - تحت قيادة بلير - توقعت التبعات الخطيرة جدا لـ«الفراغ» لكنها عجزت عن إقناع صقور البنتاغون بضرورة التنبه لها، فهذا يدل على أن لا وجود لـ«تحالف» عبر ساحلي الأطلسي بالصيغة المألوفة للتحالفات الحقيقية بين الدول المستقلة ذات السيادة، بل إن القضية برمتها قضية «تبعية».. و«كن فيكون».

وهنا نصل إلى الفرضية الثالثة. وهي أن ثمة «لوبي» مشتركا في كل من لندن وواشنطن، خطط وأوحى وحرض ونفذ.. لينتهي الوضع في العراق والمنطقة إلى ما انتهى إليه. أي إلى الفوضى والدماء و«الدول الفاشلة» و«التفهم» الضروري لمقتضيات إسرائيل الأمنية - كما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في فلوريدا أمام حشد جماهيري أخيرا - .. في ظل تنامي الأصوليات الإسلامية من حولها.

هذا «اللوبي»، ما كان قط يسعى إلى الديمقراطية وإعلاء شأن حقوق الإنسان، بل إلى الفوضى الإقليمية التي نجح في زرعها.

مع الأسف، ماضي المستر بلير السياسي يعزز الفرضية الثالثة. فهو عندما اختار التعامل المباشر مع أزمة الشرق الأوسط لم يتردد في تجاوز وزارة الخارجية، وعين موفدا شخصيا له، هو اللورد ليفي. ومن يعرف اللورد ليفي وعلاقاته الوثيقة والخاصة جدا بإسرائيل يدرك تلقائيا استحالة أن يكون «وسيطا» محايدا بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

يومذاك، كانت الخارجية البريطانية تحت قيادة الوزير السابق الراحل روبن كوك، قد أعلنت التزامها نهج «العلاقات الأخلاقية القويمة في السياسة الخارجية» استنادا إلى احترام حقوق الإنسان وحق تقرير المصير. ولقد مر كوك، شخصيا، بتجربة أثارت ضجة في حينه مع جنود الاحتلال الإسرائيلي في غزة، نقلها الإعلام العالمي بالصوت والصورة. والمعروف أن كوك كان الوزير الشجاع الوحيد الذي استقال من الحكومة اعتراضا على غزو العراق من دون تسويغ دولي ومن دون خطة لما بعد الغزو.

لكن كوك لم يكن الوزير الوحيد الذي خذله بلير. فقبله خذل، من أجل استرضاء متشددي الأحزاب البروتستانتية، الدكتورة مارجوري مولام وزيرة أيرلندا الشمالية السابقة.. والسياسية الشريفة والشجاعة التي كانت وراء التوصل إلى «اتفاقية الجمعة العظيمة» للسلام بين البروتستانت والكاثوليك عام 1998.

ومن سوء طالع حزب العمال، أنه خسر كلا من كوك ومولام، اللذين توفيا خلال شهر أغسطس (آب) عام 2005.. ومع وفاتهما طويت فعليا صفحة «العلاقات الأخلاقية القويمة في السياسة الخارجية» الغريبة عن تفكير المستر بلير، وابتعد كثيرون ممن سيحتاج إليهم الحزب في معركته الانتخابية.. لكنه لن يجدهم.

المؤسف أكثر أن حزب المحافظين، السعيد جدا هذه الأيام بـ«انتحار» حزب العمال، والشامت ببلير وبغوردن براون الذي خلفه في الرقم 10 داوننغ ستريت، ليس أفضل حالا من غريمه. وإذا كان بعض الساسة المحافظين يتشدقون اليوم بانتقاد سياسات بلير العراقية، فإنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنهم لو كانوا في السلطة مكانه لفعلوا الشيء نفسه. فهم الأكثر التصاقا بالمصالح الاستراتيجية لليمين الأميركي، والأشد دعما لمخططات اليمين الإسرائيلي وممارساته على مستوى الشرق الأوسط.