أنيس صايغ حيا عن أنيس صايغ ميتا

TT

انتقل إلى رحمة ربه المفكر الفلسطيني د. أنيس صايغ، مؤسس ومدير مركز الأبحاث الفلسطينية سابقا. بفقده فقدت آخر صديق صادق في إخلاصه للقضايا العربية. أقول ذلك وأتذكر ما كتبته قبل سنوات عن البغال السياسية. البغل حيوان تعتمد عليه الجيوش لإخلاصه في مهمته. تتساقط القنابل حوله ويئز الرصاص في أذنيه ويسقط سائسه وتتفرق قافلته ولكنه يستمر في حمولته والسير بها إلى النقطة المطلوبة. قلت إن بعض الساسة أشبه بالبغال السياسية، تتغير الأحوال وتسقط أنظمة وتأتي أنظمة ولكنهم يستمرون في طريقهم حاملين رسالتهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون أو يحرفون فيها. أنا لست واحدا من هذه البغال السياسية. ولكن أنيس كان واحدا منها. مات عبد الناصر وجرت النكبة ثم النكسة وانفصلت سورية عن مصر وفقد الناس إيمانهم بالوحدة العربية واحتلت إسرائيل كامل فلسطين. انتقل فريق للدين وآخرون للشيوعية وتخلى الكثيرون عن إيمانهم بالعروبة والعرب، ولكن أنيس لم يحد عن حبه لناصر وإيمانه بالوحدة والقومية العربية وتحرير فلسطين. قلت، إنه واحد من البغال السياسة.

استاء الكثيرون من زملائه وزملائي مما كتبت ومن هذا الوصف. راحوا يطيبون خاطره عما قلت ولكنهم فوجئوا به وهو يبتسم ويطرب لما ذكرته ويستحسنه. لم يكن رحمه الله بغلا سياسيا فقط، بل وبغلا ضحوكا أيضا. وهو ما جمعني به كل هذه السنين الطويلة التي أثمرت سلسلة كتبي عن المسألة الفلسطينية. كان من الفلسطينيين القلائل الذين تميزوا بروح النكتة وحب الفكاهة ورحابة الصدر. تجلى ذلك في كتابه الأخير عن سيرة حياته «أنيس صايغ عن أنيس صايغ»، الذي يغص بالالتفاتات الحلوة والظريفة عن حياته ومجتمعه الفلسطيني.

لم أكن أعرفه عندما بعثت إليه في الستينات بالمسودة الإنجليزية لكتابي «الحكم غيابا». أمر بترجمته إلى العربية فورا ونشره باللغتين. وكانت اللبنة التي تطورت عبر السنين إلى صداقة أخوية كثيبة معه ومع زوجته الفاضلة هيلدة. تمتنت هذه العلاقة بما لمسته فيه من حب للمسرح والفنون. وهكذا فلم يكن أنيس بغلا سياسيا ضحوكا فقط، بل وكان بغلا متذوقا للفنون والمسرح، على خلاف البغال السياسية الأخرى.

وبعد أن بعث إرهابيون مجهولون، عرب أو إسرائيليون، الله أعلم، برسالة مقنبلة إليه انفجرت في وجهه وقطعت أصابعه وأفقدته نصف نظره وسمعه، أصبحت صحبتي له ألما خاصا. كنا نذهب للمسرح دون أن أعرف كم سمع من الحوار أو فهم من المسرحية. ولكن رغبته بالمشاهدة والتتبع لم تنقطع كما انقطعت أصابعه. ولا انقطع حماسه وولاؤه للقضية الفلسطينية رغم الخلاف والقطيعة التي جرت بينه وبين ياسر عرفات. فقد كان أنيس من أول من لفت نظري إلى الفساد المتفشي في صفوف القيادات الفلسطينية. كما قلت، تعتمد الجيوش على البغال في مسيراتها عبر الجبال الوعرة لتمسكها بمهمتها. كذا كان أنيس بغلا سياسيا ضحوكا ومخلصا في نزاهته.