هل يرتدي كارلوس عمامة حماس؟

TT

منظمة حماس وإسرائيل، في هذه المرحلة، في بداية اشتباك واسع، في ظل هدنة هشة. في هذا السياق تأتي عملية قتل أحد أبرز قادة حماس الأمنيين، محمود المبحوح في دبي.

نقول قتل لأن شرطة دبي ذكرت أن الرجل تعرض لخنق، أما حماس فقد أعلنت استشهاد قائدها الأمني وتوعدت بالرد. أما إسرائيل المتهم الأول، فهي لا تخفي نيتها استهداف الرجل فلزمت الصمت رسميا، ولكنها تركت كل الدلائل تشير إليها.

هي إذن، حتى الآن، عملية قامت بها استخبارات إسرائيل ضد قائد من قادة حماس المكلفين بتنسيق أمن حماس وعلاقاتها الخارجية ودعم ذراعها العسكري، كتائب القسام، وتأمين السلاح والعلاقات لها.

هذا عمل خطير وانتهاك فاضح لأراضي دولة عربية هي الإمارات العربية المتحدة، وسابقة من نوعها، يجب ملاحقة الجناة فيها وإذا ثبت أن إسرائيل تركت خيطا قانونيا أو جنائيا يدل عليها فيجب استغلال هذا الأمر ضدها بالشكل القانوني والسياسي والإعلامي، ففتح البلدان العربية لعمليات الاغتيال والملاحقات ينذر بتدهور خطير ويعيدنا إلى بيروت السبعينات والثمانينات حين كانت المدينة مسرحا مستباحا بين إسرائيل وخصومها من شتى المنظمات الفلسطينية، وبين الجماعات اللبنانية بعضها وبعض، وبين أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، وكأنه كان هناك اتفاق ضمني في العالم بحصر مسرح المواجهة في بيروت، أو جارتها في البحر القريب قبرص.

نحن الآن في عهد آخر غير عهد السبعينات والثمانينات الثوري والفوضوي، والفالت، نحن في عصر له تحديات وأزمات أخرى ولا يريد أحد بعث الجثث من القبور.

يجب ملاحقة قتلة المبحوح بكل حزم ودون تردد، هذه قضية مفروغ منها لأن في ذلك تحقيقًا لمبدأ سيادة القانون وتخليصًا للبلدان المستقرة من طائلة وضرر جماعات القتال العابرة للحدود مثل حماس وحزب الله. يجب ملاحقة القتلة بحزم حتى تحترم إسرائيل ومن تلاحقهم أو يلاحقونها، فكرة أن هناك دولا عربية مستقرة لا تريد أن تُجر، رغم أنفها، إلى صراعات وحروب واغتيالات لا تريد هي الانجرار إليها، بعيدا عن أسلوب الضغط الإعلامي والابتزاز العاطفي للجماهير، فطريقة دعم القضية الفلسطينية ليس بالضرورة أن تكون وفق معايير وتفصيلات حماس وحزب الله، غير أن هذه قضية أخرى.

إذن هي عملية خطيرة ومنعرج ينذر بالكثير من السوء ويجب كف يد أجهزة الدولة العبرية والمنظمات الثورية عن تحويل الساحات العربية إلى مسارح وحلبات للمواجهات والملاحقات والتفجيرات والاغتيالات.

جربنا في عقود ماضية تجارب من هذا النوع، فكانت حوادث خطف الطائرات في الأردن وتفجيرها، وكانت الاغتيالات في عواصم العالم باسم القضية الفلسطينية ودخلت إسرائيل بعمليات استخبارية قذرة، في بيروت وتونس ولندن، وكذلك قامت جماعات فلسطينية ومعها «محترفو ثورة» مثل الفنزويلي كارلوس أو المحترف الآخر اللبناني أنيس نقاش ومن تيسر معهم من ثوار الجماعات اليسارية الألمانية وثوار الجيش الأحمر الياباني، فكانت الذروة بعملية فينا الشهيرة (ديسمبر / كانون الأول 1975) حين قرر وديع حداد، قيل إنه قرر ذلك بتدبير وتحريض من دولة عربية ثورية حينها، قرر خطف وزراء منظمة أوبك وإعدام وزير النفط السعودي ومعه وزير النفط الإيراني، بالفعل احتلوا موقع الاجتماع في فينا وقتلوا بعض الحرس ثم استقلوا طائرة جابت بهم الأجواء بين الجزائر وليبيا ثم انسحبوا إلى الظلام مثلما أتوا منه.

لم تكن عملية الأوبك في فينا هي الوحيدة، فقد كان هناك العديد من هذه العمليات ومن يقرأ حوارات الصحافي غسان شربل المميزة في كتابه: (أسرار الصندوق الأسود) يدهش لحجم الاستهتار الذي كان يحكم شخصا مثل كارلوس أو أنيس نقاش أو كمال خير بك وقادتهم أمثال الفلسطينيين وديع حداد أو حتى أبو جهاد خليل الوزير.

كل تلك العمليات كانت تتم باسم القضية الفلسطينية رغم عدم وجود الربط الواضح، وما أمر دولة عربية ثورية لوديع حداد ورجاله بتنفيذ عملية خطف وزراء أوبك، واغتيال الوزيرين السعودي والإيراني، إلا نموذجا على هذا الاستهتار، ويقول أنيس نقاش في حواراته الموسعة، في كتاب غسان شربل: إنه كان مكلفا بقيادة عملية أوبك مع كارلوس، وإن الأخير كان تلقى أمرا صريحا بإعدام الوزيرين إلا أن اللبناني نقاش، الأكثر معرفة بالعالم العربي من هذا الثوري اللاتيني المحترف، كارلوس، كان يدرك مغبة القيام بعمل تصعيدي مثل هذا على واقع القضية الفلسطينية نفسها، فنصح كارلوس آخر المطاف بعدم تنفيذ هذا الأمر والعدول عن إعدام الرجلين، والاكتفاء بأخذ فدية وإذاعة بيان سياسي ثوري باسم جماعة «ذراع الثورة العربية»، فنظر إليه كارلوس وقال له بما يشبه الاقتناع: يبدو أنك تفهم في السياسة كثيرا!

لقد كانت عمليات الجماعات الفلسطينية الثورية عامل انقسام وتوتير، ليس بين الدول العربية فقط، بل بين الفلسطينيين أنفسهم، وطالت عمليات الاغتيال ساسة فلسطينيين بأيد فلسطينية وكل ذلك باسم النقاء الثوري والعمل الفدائي، وصارت الأمور فوضى في فوضى، حتى تحول البعض إلى بنادق صريحة للإيجار كما جرى مع صبري البنا أبو نضال.

نستذكر هذه المرحلة حتى نقيم تصريحات القيادي الحمساوي محمود الزهار الذي قال بعد عملية قتل المبحوح: إسرائيل غيرت قواعد اللعبة في التعامل مع حماس من خلال نقلها ساحة المواجهة خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة باغتيالها محمود المبحوح المسؤول العسكري في الحركة.

ونوه الزهار إلى أن إسرائيل جربت ذلك واكتوت بنارها في صراعها مع منظمة التحرير، مؤكدا أنها تعرف أن حماس لا تقل قدرة في الوصول لأهدافها في أي مكان.

وكأن الزهار يريد القول: لسنا أقل قدرة من فتح وجماعة أيلول الأسود ووديع حداد أو كارلوس وأنيس نقاش، ونستطيع أن نفعل أفضل منهم الآن، كما فعلوا هم في السبعينات والثمانينات.

العجيب أن أبرز كاتب فلسطيني في الخارج أشار إلى نفس هذا المعنى في مقاله الذي علق به على هذه العملية وأشار إلى أنه: «ربما يفيد التذكير، تذكير الإسرائيليين وحلفائهم الغربيين، بأن فصائل المقاومة الفلسطينية أربكت العالم بأسره، وأوقعت خسائر كبيرة بالإسرائيليين، وبثت الرعب في سفاراتهم وشركات طيرانهم، عندما نقلت المعركة إلى ميادين أرحب، وفي القارة الأوروبية على وجه الخصوص، في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي».

والسؤال هنا : ماذا يعني هذا الكلام «عمليا»؟

لا نتحدث عن محاربة إسرائيل، فهذا أمر طبيعي لجماعات ترفض عملية السلام من حيث الأساس والفلسفة، فيصبح طبيعيا أن تحارب هذه الجماعات إسرائيل، هذا أمر طبيعي، لكن ألم تقم جماعات السبعينات باستباحة كل شي باسم فلسطين؟ وحاليا ألم ينتهك حزب الله سيادة مصر باسم فلسطين؟

هل يعني كلام الزهار والكاتب الفلسطيني أنه يجوز الآن استباحة الدول العربية وغير العربية وخطف الطائرات والقتل في العواصم المختلفة باسم القضية الفلسطينية؟ وهل هذا دليل على أن ما سيجري أو يهدد به ليس إلا امتدادا طبيعيا لما كان يفعله أمثال كارلوس وأنيس نقاش في السبعينات والثمانينات؟ وهو ما يؤيده أن كارلوس من سجنه الفرنسي، الذي يقبع فيه منذ 1994، أرسل رسالة إعجاب ومساندة لأسامة بن لادن بعد قيام القاعدة بعملية 11 سبتمبر، ويؤيده أن أنيس نقاش القابع في بيروت في كنف حزب الله ما زال يبدي دعمه للحزب الإلهي ويبدي إعجابه بكل أفعاله، ويرى نقاش أن فكره الثوري لم يتغير منذ السبعينات، مما يعني أنه وجد نفسه في هذه المرحلة في حزب مثل حزب الله أو حماس.

الفكرة من هذا كله أن: تجريب المجرب ضرب من العبث. ولنفرض أن حماس ومن معها قاموا بمثل ما قام به وديع حداد ورجاله أو أبو إياد ورجاله، ثم ماذا؟!

هل الجماعة في حماس ومن معهم يدركون أننا نوشك أن ننهي العقد الأول من الألفية الثانية؟! وأن هناك عالما جديدا بعد 11 سبتمبر 2001، وأن الاتحاد السوفيتي انهار، وأن صدام حسين أُعدم، وأن معمر القذافي تقاعد عن العمل الثوري، وأن كارلوس ربما يقضي آخر أيامه في السجن، يزرع الورد ويشاغب الحراس.. أم أن الزمن وتحولاته لا قيمة لها عند الزهار والكاتب الفلسطيني العتيد؟ إنها مقدمات فوضى مستهترة، من أجل ذلك يجب بكل قوة لجم العبث الإسرائيلي ومواجهة الاعتداء الصارخ على سيادة الدولة العربية، وغير العربية، بحزم وسرعة، فلا أحد يريد بعث أشباح الموتى من مقبرة السبعينات.

[email protected]