تحديات الأمن في العراق.. لا مخرج قريبا

TT

معظم ما حدث من عمليات مسلحة بعد 9 أبريل (نيسان) 2003، كان بتوجيهات أصدرها صدام وقادة آخرون من النظام السابق إلى الجهاز الحزبي من مناطق اختفائهم، ومسارعة تنظيم القاعدة لاستغلال الفراغ الأمني، والتدخلات الإقليمية عموما وفيلق القدس تحديدا، كل وفق مخططاته.

وما كان لهذه التوجهات لتصل بالنشاطات المسلحة إلى ذروتها لولا الأخطاء الكبيرة في فلسفة بناء الدولة الجديدة، والشعور بالحيف والظلم من قبل شرائح واسعة، خصوصا ملايين المتضررين من حل الكيانات والمؤسسات السيادية. فتحول هؤلاء من حالة يمكن وصفها على الأقل بالحياد الوطني إلى حالة العداء مع النظام الجديد. وبما أن هؤلاء يتمتعون بخبرة بناء وأمن واستمرار الدولة، فقد كان استهدافهم خطأ فظيعا.

ولأن النظام الجديد ألحق ضررا بشرائح مهمة، ثم تطور إلى مرحلة أكثر تعقيدا، فقد تفاقمت ردود الفعل، وانتقل عسكريون سابقون إلى مرحلة قبول التحدي. وكان يمكن معالجة هذا الوضع بتصحيح الموقف من بداياته، على أساس الإبقاء على حكومة انتقالية ودعوة ضباط وعناصر أجهزة الأمن للالتحاق بدوائرهم بضمانات أخلاقية بعدم اجترار الماضي. من ثم يصار إلى إحالة غير القادرين على التعاطي الإيجابي مع النظام الجديد إلى التقاعد وضمان لقمة عيش عوائلهم وليس تجويعهم ومحاربتهم ومحاولة إذلالهم. بدل التعاطي الإيجابي مع أصحاب الخبرات، مُنعت المؤسسات الجديدة من إعادة (كل) من عمل في المؤسسات الأمنية السابقة، التي سميت بالأجهزة القمعية، من دون استثناء. فيما كان جهاز المخابرات يضم نحو اثني عشر ألفا، ومثل هذا الرقم في الأمن العام، ونحو ستة آلاف في الاستخبارات والأمن العسكري، وآلاف في الأمن الخاص. ولم تكن للكثير من اختصاصات الأجهزة علاقة بشؤون الأمن الداخلي. كالتجسس الخارجي والأمور الفنية والإدارة والتدريب.. ووفق هذه المعطيات لم يعد ممكنا ولا يسيرا تمتع المؤسسات الجديدة بالكفاءة على المدى القريب. فأفراد الميليشيات لا يمتلكون المؤهلات للقيام بمهام الأمن والاستخبارات، والأدهى من ذلك أن فيلق القدس وغيره من مؤسسات إيرانية، استغلت الحالة لاختراق المؤسسات الأمنية عبر الميليشيات. وتحدث لي أحد مديري الأجهزة بمرارة، عن تدخلات المالكي قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، ومحاولته زج أعداد كبيرة من عناصر حزبه في تلك المؤسسة، بحجة أنهم من المتضررين من النظام السابق، فكيف وقد أصبح حاكما؟

يفترض بناء استراتيجية الدولة الأمنية على أسس علمية ونوعية وليس على قاعدة التوسع الأفقي غير المسيطر عليه. فالجيوش كبيرة الحجم تدعو الحاجة إليها في ظروف حرب خارجية تقليدية، ولا تؤدي الحجوم الكبيرة للجيش والشرطة والأمن وتعددها إلا إلى إرباك وتداخل في الصلاحيات والمهام، واستنزاف موارد الدولة، وإتاحة الفرص لوقوع المزيد من الثغرات. وتؤكد التقارير التي تشير إلى فصل أكثر من ستين ألف عنصر أمن جديد حقيقة البناء الهش والعشوائي.

الإرهابيون وقوى العنف والناقمون على النظام الجديد والمتضررون.. يمتلكون مهارات وخبرات تفوق مؤهلات أجهزة أمن واستخبارات قليلة الكفاءة والممارسة ويديرها أشخاص غير مؤهلين للمهام الصعبة والمعقدة. واللجوء إلى المداهمات العشوائية والاعتقالات الواسعة ومواصلة النهج الاستفزازي، لا يوفر الأرضية المناسبة لحصول تحسن أمني. ولا ينبغي الغرور بما حصل من تحسن أمني والتفاخر به كمنجز حكومي، فالوقائع تثبت أن إنهاء الحواضن الواسعة للإرهاب قد تحقق بتعاون بين قوات التحالف وشباب الصحوة، وتصدي شباب الوسط والجنوب لفرق الموت الإيرانية. ونتيجة إدراك خطورة أهداف الطائفيين الذين كانوا يروجون ما يدّعونه عن عدم قدرة ما يسمونها «المكونات» على التعايش السلمي.

وبمرور الوقت يدرك العراقيون ما سببه مخطط إبعاد عناصر الأمن لأسباب فئوية وحزبية، من نقص خطير في الخبرات تسبب في مضاعفة نزيف دماء الأبرياء من العراقيين. لذلك، ومع عدم إغفال الجانب الإجرامي للإرهاب، فإن الحكومة والكتل والجهات التي وقفت إلى جانبها في التفريط بخبرات وقدرات الأجهزة السابقة ليست معفاة من مسؤولية كبيرة، أخلاقية ومهنية وقانونية، عما أصاب العراقيين من أضرار فادحة. ولا ينبغي التذرع بدستور مختلف عليه، حيث كان بإمكان رئيس الوزراء الإصرار على إعادة ضباط الأمن والاستخبارات والمخابرات، أو أن يقدم الاستقالة ويلقي بالمسؤولية على المعترضين لو كان مهتما بحماية أرواح الناس.

إذا لم يتغير نهج الاستعداء والاعتقالات والاستفزازات اللفظية المتكررة، وإذا لم تتوقف عمليات الاستئثار بالسلطة وتهميش شرائح وطنية علمانية، وإذا لم يعد التعامل مع الضباط السابقين باحترام ويرد الاعتبار لهم، فمن المستبعد الخروج من نفق الأزمات الأمنية قريبا. وإعادة الاعتبار لضباط وعناصر الأجهزة السابقة ليست مسألة إنسانية أو شخصية بالدرجة الأولى، بقدر ما هي ضرورة وطنية ملحة للمساهمة في حفظ أمن الأبرياء، الذين لا يتمتعون بحماية الحصون.