الهند تطرح نموذجا مختلفا للوطنية

TT

لا يزال حصن أمبر كما كان، فلا يزال البناء وردي اللون، يتلألأ في شمس الصباح الباكر، ولا تزال الصقور والأفيال كما هي، ولكن كل شيء عدا ذلك يبدو مختلفا، ففي آخر المرات التي زرت فيها «جيبور»، لم تكن ثورة الرأسمالية قد وصلت إلى الهند، وكان السياح الذين يطوفون المكان من الأجانب الفقراء،ئ الذين يرتدون حقائب الظهر، لكن السياح الذين رأيتهم خلال هذه الزيارة كانوا يرتدون ملابس أنيقة، بل وكانوا هنودا. ففي الجانب الآخر من الفناء، كان هناك زوجان أنيقان من دلهي، يرتديان ملابس من الكشمير ويستمعان بهدوء إلى مرشديهم، فيما كانت تحتشد مجموعة من سيدات الطبقة الوسطى اللاتي يرتدين الساري، بين أقرانهن من الفرنسيات واليابانيات، ويلتقطن صورا بكاميراتهن الرقمية.

مما لاشك فيه أن السياحة نوع من الرفاهية، ولكنها أصبحت الآن متاحة للملايين من الهنود بعد عقدين من النمو الاقتصادي، والسوق المفتوحة، والتجارة العالمية، كما أنها أيضا إحدى سمات العصر الذي يعيشونه، فالناس لا يشعرون بالفضول إزاء بلادهم إلا إذا كانوا يفتخرون بها. وهم يدفعون المال في مقابل الاستماع إلى تاريخ المعالم الأساسية لبلادهم، إذا ما كانوا غير راغبين في السفر إلى خارج بلادهم. ولكن السياح الهنود ليسوا سوء أحد جوانب ظاهرة أكبر، ففي جميع أنحاء العالم يحدث تزامن بين الانتعاش والوطنية.

ولكن، ما نوع الوطنية الذي يمكن أن يحدث في الهند؟

تطرح البيئة العامة المحيطة بالهند الكثير من النماذج، فمثلا يعبر الزعماء الصينيون عن حالة من الثقة في النفس، ناجمة عن الثروة المرتبطة بالتصدير وهم يعبرون عن تلك الوطنية من خلال استخدام خطاب وطني عالي النبرة، فهم يتعاملون مع كل الانتقادات الداخلية باعتبارها خيانة، ويعلنون رفضهم للرأي العالمي، ويعبرون عن قوتهم من خلال معاملة الرئيس أوباما بازدراء خلال قمة المناخ. فيما تتخذ الوطنية الروسية طابع الإمبريالية الجديدة، ويعبر الزعماء الروس عن ثقتهم بذاتهم التي نشأت عن الثروة البترولية من خلال الحالة العدوانية، وفي بعض الأحيان الهجوم العسكري على جيرانهم. وعلى الرغم من أن التزامن بين غزو روسيا لجورجيا وإقامة الدورة الأولمبية في بكين في صيف 2008 لم يكن مقصودا، فإنه كان عرضا لنموذجين من الثقة الوطنية خلال أسبوع واحد، كما كان استعراضا لطريقتين مختلفتين في التعبير عن الوطنية.

وليس مستبعدا أن تتطور الوطنية الهندية في أي من هذين الاتجاهين، فليس الاعتداء حالة مستبعدة تماما هنا، حيث يظهر الحس الوطني في قضايا غير متوقعة على الإطلاق، فقد تصدرت الصحف أخيرا أخبار رفض دوري الكريكيت الوطني قبول لاعبين باكستانيين، وهو القرار الذي تم عزوه على نطاق واسع إلى السياسة والإجحاف.

لا أريد أن أضخم من انعكاسات ندوة واحدة ضمن احتفالية واحدة، ولكنه كان من الواضح تماما أن الجماهير المحتشدة لم تكن مجبرة على الحضور، وأنه لم يكن هناك من يخشى أن يعبر عن رأيه بصوت عال. إنه ذلك النوع من الوطنية الذي يصعب أن تجده في الصين أو في روسيا، وهو ما أعطى الهند روائييها النشطاء، وثقافتها الشعبية المنفتحة وصناعة الأفلام الناجحة. وسوف يحافظ ذلك النوع من الوطنية - إذا ما تم تشجيعه وتطويره - على التنوع السياسي الهندي والديمقراطي على مدار الوقت، حتى إذا تراجع النمو الاقتصادي، كما أنه ذلك النوع من الوطنية الذي يجعل السياح من أمثالي يستمدون نشاطهم من مجرد زيارة قصيرة، وكما أن الأحوال الاقتصادية تتغير، والتوجهات السياسية تتغير كذلك. ففي الوقت الراهن، تراجعت الديمقراطية وحلت محلها السلطوية، حتى أصبحت هناك توجهات شائعة في كثير من مناطق آسيا تدعي أن النمو الاقتصادي المتسارع يتطلب فرض رقابة وسيطرة سياسية مركزية، ولكن الهند تقدم بلا شك نموذجا بديلا. وعلى الرغم من أنني أدرك أن الكثير من الهنود سوف يختلفون معي في ذلك، فإن ذلك يجعلني أكثر تفاؤلا.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»