الوقف.. المحرك الواعد

TT

25 مليار دولار، هذا الرقم ليس ميزانية دولة، ولا ثروة تاجر البرمجيات بيل غيتس، ولا رأسمال بنك دولي، بل هو ببساطة حجم المشروعات الوقفية في جامعة الملك سعود خلال العشرين سنة القادمة.

لا يمكن للمرء أن يتخيل أن فكرة تاريخية كفكرة الوقف يمكن توظيفها لتغدو من أهم أساسات دعم البحث العلمي، وتطوير البنية التحتية، والإنفاق الاستهلاكي لجامعة كانت كصاحباتها تعتمد كلية على الموازنة الحكومية كمصدر لتمويل نفقاتها.

ما يحصل عمليا أن كل الجامعات السعودية، كغيرها من جامعات المنطقة، تنتظر بداية العام المالي ما تجود به الحكومة من نصيب مستقطع لها من ميزانية الدولة لتدير به كل العملية التعليمية والبحثية بمتطلباتها الهائلة. وفي نهاية العام تهدي الجامعة للحكومة مئات من الخريجين المتطلعين إلى التوظيف الحكومي معظمهم يكتسبون خلال وقت قصير لقب العاطلين عن العمل، ثم تنتظر قسمتها من ميزانية العام التالي، وهكذا. مبالغ طائلة تستنفد أولا بأول، ناهيك بالعجز الحاصل. وبعيدا عن القيمة العلمية والمعرفية التي خرج بها صاحب الشهادة الجامعية، فإن هذه الدورة السنوية بين الجامعة والحكومة تشكل من الناحية الاقتصادية عبئا ثقيلا على أكتاف الدولة مهما كانت الدولة حظية باقتصاد متين ناتج بشكل رئيسي عن أسعار نفط اختارت في ذلك العام الاستقرار عند الرقم المطلوب.

فلو أخذنا مجال البحث العلمي كنموذج لقطاع يرمز للقيمة المعرفية لأي دولة في العالم، وفي الوقت نفسه كجانب شَرِهٍ يحتاج إلى إمداد مادي غير ناضب، فإننا هنا نتحدث عن ضرورة توفر عنصر الاستقرار المالي الداعم، فبيئة العمل البحثي بيئة حساسة لا تقل بذلك حساسية عن بيئة الاستثمار في أسواق المال التي قد تتأثر حتى على مستوى الشائعات، هذه الحساسية قد تنعكس سلبا على عملية التبادل المعرفي بين الجامعة والجهات البحثية المتميزة، وكذلك على جدية الباحثين المحليين وباحثي الاستقطاب وتحفيز قدراتهم الإبداعية والابتكارية، ولا يمكن احتواء ذلك إلا من خلال وجود تمويل ثابت يؤسس لقاعدة صلبة للبحث العلمي.

في الجامعات المرموقة، تصل عائدات استثمار المشاريع الوقفية إلى ثلث موازنتها، فالقدوة جامعة هارفارد، بلغ حجم إجمالي وديعتها الوقفية 25 مليار دولار، تلتها جامعة ييل بـ15 مليار دولار، ثم ستانفورد بـ12 مليار دولار، تساهم فيها الدولة والمتبرعون بأصول نقدية وعقارية تدار من شركات استثمار متخصصة. ومع الإبقاء على الأصول، تُستخدم عوائد هذا الاستثمار في تمويل البحث العلمي، والبنية التحتية، والميزانية التشغيلية للجامعة، إضافة إلى خدمة المجتمع والعمل الخيري. وإن كان من التزامات الحكومة الإنفاق على قطاع التعليم، فإن من مصلحتها الدخول بقوة في مشروعات تعليم استثمارية تخفف عنها ثقل الإنفاق السنوي، أما المتبرعون والخيّرون من وجهاء المجتمع فإني لا أعرف من أوجه الخير ما قد ينافس تسليح مجتمعهم بالعلم والمعرفة ليكون دافعا لهم للمساهمة فيه.

إن تحقيق التميز في قطاع التعليم العالي ومجال البحث العلمي أمر مكلف ماديا، ويتطلب الإقدام على خطوات جريئة في التخطيط الاستراتيجي لمحاكاة الجامعات العريقة على مستوى العالم، فجامعة هارفارد لم تولد عظيمة، ولم تكن متواضعة التطلع، ولم تحافظ على مكانتها الدولية إلا لأنها اعتمدت لنفسها سياسة تعليمية واقتصادية وتنظيمية على معايير عالية لا يحققها سوى أصحاب المقاعد الأُوَل في صف التعليم الجامعي والإطار البحثي. وإن ارتضت جامعاتنا أن تنافس على المستوى المتوسط فقد تحصل عليه، وإن أنفت إلا أن تنافس هارفارد أو ييل فلتكن على قدر التحدي، فالوقوف رأسا برأس بجانب قيادات التعليم العالمية والدخول في دائرتهم التي لا تسع إلا المتفوقين يتطلب في كثير من الأحوال الحذو حذوهم في بعض الجوانب، كونهم أصحاب تجارب غنية؛ فإن كنت في قوم فاحلب في إنائهم.

إن محاولة أي جامعة النهوض بنفسها والاكتفاء بذاتها ولو جزئيا، وقدرتها على جذب المستثمرين إليها، فيها دلالة مباشرة على قوتها، وتعبير عن ثقة المجتمع فيها، وتعزيز لمكانتها محليا أمام الدولة والمجتمع، وعالميا أمام مثيلاتها.

* أكاديمية سعودية

جامعة الملك سعود

[email protected]