عودة تنظيم القاعدة

TT

النقاش والجدل حول حالة تنظيم القاعدة لم يتوقف طوال العقد الذي انتهى توا؛ وربما كان هناك من قلل من قيمة التنظيم عندما تشكل قرب نهاية القرن الماضي، ولكن المؤكد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 جعلته حقيقة واقعة من حقائق العلاقات الدولية التي تمت ترجمتها إلى حروب في العراق وأفغانستان واليمن ومناطق أخرى في العالم؛ وسلوكيات تجدها في سياسات حكومات في المطارات والموانئ وكل المناطق المهددة بالإرهاب. وربما كان شهرا ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) هما زمن «تنظيم القاعدة» بامتياز. فلا يكاد يمر يوم إلا ونجد اسم التنظيم مطروحا في وسائل الإعلام المختلفة، والسبب في ذلك تعدد الأحداث والتطورات التي كان فيها التنظيم قاسما مشتركا، وكان آخرها تبني زعيمه أسامة بن لادن، في تسجيل صوتي بث في 24 يناير الحالي، محاولة الاعتداء التي وقعت يوم 25 ديسمبر 2009، وقام بها النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب، وكانت تهدف إلى تفجير طائرة متوجهة من أمستردام إلى ديترويت في الولايات المتحدة.

ففي رسالته التي بثت بعنوان «من أسامة إلى أوباما»، قال بن لادن إن «الرسالة المراد إبلاغها عبر طائرة عمر الفاروق عبد المطلب هي تأكيد على رسالة سابقة أبلغها أبطال 11 سبتمبر». وأضاف: «لو أن رسائلنا إليكم تحملها الكلمات لما حملتها الطائرات». كما أشار زعيم تنظيم القاعدة إلى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى إسرائيل بوصفه دافعا لشن مزيد من الهجمات على الولايات المتحدة، حيث قال في هذا الإطار: «هجماتنا عليكم ستتواصل ما دام دعمكم للإسرائيليين متواصلا.. ليس من الإنصاف أن يهنأ الأميركيون بالعيش ما دام إخواننا في غزة في أنكد عيش». هذه الرسالة أشارت من ناحية إلى نوع من الصعود في أحوال التنظيم ووجوده على ساحة دولية واسعة. فقد تعددت العمليات التي قام بها التنظيم في الأسابيع الأخيرة، وبعد المحاولة الفاشلة التي قام بها النيجيري عمر الفاروق عبد المطلب، وقع هجوم انتحاري في قاعدة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في خوست بأفغانستان في 30 ديسمبر الماضي، نفذه عميل مزدوج أردني الجنسية (طبيب من أصل فلسطيني) يدعى همام خليل أبو ملال البلوي المعروف بـ«أبو دجانة الخراساني»، أسفر عن مقتل سبعة من عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية بينهم مديرة القاعدة، وهو ثاني أعنف هجوم في تاريخ الوكالة بعد هجوم على مكتبها في بيروت عام 1983، حيث دمرت السفارة الأميركية وقتل ثمانية من جواسيس الوكالة.

وقد أعلن تنظيم القاعدة أن الهجوم الانتحاري هو انتقام لضحايا غارات الطائرات الأميركية من دون طيار على باكستان، وعرضت بعض وسائل الإعلام، ومنها قناة «أج» الباكستانية، لقطات لمن قالت إنه همام البلوي، أثناء لقاء له مع زعيم حركة طالبان الباكستانية حكيم الله محسود وزعمت أنه تبادل معلومات استخباراتية جمعها من الولايات المتحدة والأردن مع متشددين آخرين. ونقلت عنه قوله إن «المخابرات الأردنية والأميركية عرضت عليه ملايين الدولارات مقابل التجسس على المجاهدين، لكنه رفض الثروة وانضم للمجاهدين». كذلك، طالب ما يسمى بـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في 31 ديسمبر 2009، بفدية قدرها 7 ملايين دولار وإطلاق سراح عدد من عناصره المعتقلين في السجون الموريتانية، مقابل إطلاقه سراح 3 إسبان من بين الغربيين الذين يحتجزهم منذ 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في موريتانيا عندما كانوا ينقلون مساعدات إنسانية إلى غرب أفريقيا ضمن قافلة. فضلا عن ذلك، وقع هجوم انتحاري في أول يناير 2010، وسط حشد من القرويين الباكستانيين الذين كانوا يشاهدون مباراة للكرة الطائرة في قرية شاه حسن خان في إقليم بانو في الولاية الحدودية الشمالية الغربية، التي تكثر فيها الهجمات والتفجيرات التي ينفذها عناصر طالبان، انتقاما من الحملات المتعددة التي يشنها الجيش الباكستاني على معاقلهم. وقد أسفر الهجوم عن مقتل 40 شخصا على الأقل، وإصابة العشرات بجروح.

من ناحية أخرى فإن هذه العمليات يمكنها أن تشير إلى وهن في التنظيم، حيث تؤشر إلى وجود حالة من الضعف العام يعاني منه بسبب الضربات المتتالية التي يتعرض لها في مناطق مختلفة من العالم، بدءا من أفغانستان مرورا بباكستان والعراق وانتهاء بالصومال واليمن. والدليل على ذلك مسارعة التنظيم إلى تحمل مسؤولية الهجوم الفاشل على الطائرة الأميركية عشية أعياد الميلاد بل ومحاولة تضخيمها من خلال تشبيهها بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، رغم الفارق الهائل بين الحدثين سواء في طريقة التنفيذ أو عدد المنفذين أو النتائج التي تمخضت عنهما. ويبدو - وفقا لوجهة النظر هذه - أن الرسالة كانت تهدف في الأساس إلى إضفاء هالة من الزخم والوجاهة على التنظيم، من أجل اجتذاب عناصر جديدة تعوض الخسائر التي يتعرض لها بسبب الضربات المتواصلة التي يواجهها، ومن هنا يمكن تفسير حرص زعيم التنظيم على الاستناد إلى طروحات لم يسبق له التركيز عليها كثيرا مثل «معاناة الفلسطينيين» و«الدعم الأميركي المتواصل لإسرائيل»، باعتبارها «تأشيرة الدخول» إلى قلوب وعقول العرب والمسلمين، ومن ثم اجتياز خطوات عديدة في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى وهو تجديد شباب ودماء التنظيم بتجنيد عناصر جديدة داخله من خلال الوسائل الجديدة وعلى رأسها شبكة الإنترنت التي أثبتت نجاحا ملحوظا في عملية التجنيد لتنفيذ عمليات محسوبة على التنظيم.

ولكن أيا من الحجتين لا تعنى بالضرورة وهناً في التنظيم، فتحمل مسؤولية عملية طائرة ديترويت رغم أنها لا تماثل عمليات الحادي عشر من سبتمبر فإنها من ناحية أخرى شكلت اختراقا كبيرا لأجهزة الأمن الأميركية. وقد دفع ذلك الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى توجيه انتقادات شديدة للأجهزة الأمنية لأنها أخفقت في منع عمر الفاروق عبد المطلب، من الوصول إلى الولايات المتحدة. وصرح الرئيس أوباما بأن «الحكومة الأميركية كان لديها المعلومات الكافية لكشف هذه المؤامرة، وربما إحباط هجوم عيد الميلاد، لكن استخباراتنا أخفقت في الربط بين هذه النقاط». وتحمل أوباما المسؤولية الكاملة عن الإخفاقات الأمنية، وأمر بتطبيق إصلاحات للحيلولة دون وقوع هجمات في المستقبل. والواقع أن التجربة أثبتت أنه لا يوجد ما يسمى منع خصم متمرس على العنف من البحث عن طرق جديدة لاختراق سدود منيعة وتجاوز حواجز عالية.

نتائج ذلك مربكة بالنسبة للرئيس أوباما وبرنامجه في الولايات المتحدة وخارجها، ويبدو أن واشنطن لا يوجد لديها حتى الآن شيء سوى التصعيد سواء حدث ذلك من خلال استخدام الطائرات في اليمن لتعقب أعضاء «القاعدة»، أو وقف إعادة المعتقلين من معتقل غوانتانامو إلى اليمن بعد أن ثبت تورط من سبق الإفراج عنهم في العمل الإرهابي مرة أخرى. ولكن ارتباك أوباما ربما يخص أميركا، أما المعضلة الأكبر فهي تخص العالم العربي، حيث يبدو أن التنظيم قد نجح في زرع وجود جديد له في مواقع متنوعة ربما يكون اليمن أشهرها في هذه المرحلة، ولكن الإشارات تشير إلى أن الوجود أكثر اتساعا بكثير في ساحة ممتدة من الخليج حتى المغرب. وكما هو الحال لدى الحكومة الأميركية فإن الحكومات العربية ربما احترزت بإجراءات أمنية وقائية، ولكنها لا تحل أبدا معضلة بن لادن ورفاقه الذين لا يزال لديهم قدرات هائلة على التجنيد والحصول على الأموال والتخطيط لعمليات إرهابية صبورة وفائقة الدقة، وكل ذلك من خلال حزمة من الأفكار التي تسيطر على القلوب والعقول إلى درجة الاستعداد للانتحار. وهنا توجد المعركة الحقيقية التي لم تتنبه لها بعد العاصمة الأميركية والعواصم العربية أيضا، حيث المفتاح هو كسر الحجة على الإقناع بأخلاقية القيام بعمليات إجرامية. وفي مرحلة ليست بعيدة كان أوباما يعتقد أن حل الصراع العربي - الإسرائيلي هو جزء من عملية الحرب على الإرهاب، ولكنه يبدو أنه قد نسي هذه الحكمة في غمار التعامل مع قضايا كثيرة فأعطى بالنسيان سلاحا بتارا لجماعة تنظيم القاعدة لكي يدمروا أهدافا أميركية وعربية أيضا.