الصوت أسبق ترتيبا من الخطب

TT

والمقصود هو أن الزعيم السياسي يجد نفسه مجبرا على الانتباه إلى ما يعتمل لدى الناخبين من مواقف وتصورات. وأصبح متوقعا في كل حين أن تتغير خططه أو أن تخضع لتعديل تبعا لتقلبات الرأي العام. ويحدث هذا بالطبع بالبلدان التي يكون فيها للرأي العام حرمة. فقد كان كافيا أن يفقد الديمقراطيون الأميركيون مقعد إدوارد كينيدي ليستوعب الرئيس أوباما أنه عليه أن يغير خطابه.

وهذه النازلة نظرت إليها من وجهتين. فقد كان علي أن أسجل خلو تقرير حالة الأمة الذي ألقاه الرئيس أوباما أمام برلمان بلاده من التعرض للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد قيل في تفسير رسمي لذلك: إن الرئيس الأميركي لم يكن ليغامر بالإدلاء برأي بات في الموضوع، وهو مقبل في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم على انتخابات تشريعية حرجة. ولو كان قد جدد التعبير عن رأيه بشأن الدولتين ومعارضة المستوطنات، لكان قد أغضب اللوبي اليهودي.

هذا من جهة. وقد ذهب التفكير أيضا إلى ما تعنيه للقادة السياسيين في الأنظمة الديمقراطية المتقدمة تقلبات الرأي العام، حتى إن الرئيس أوباما، بعد فقدان مقعد في مجلس الشيوخ، أراد ألا يزيد من حجم الخسائر.

من حيث تدني أولوية المسألة الفلسطينية في الأجندة الأميركية ليس في الأمر ما يدعو إلى العجب. وسبق أن تكهنا هنا منذ نحو سنة بأن الإيطابليشمنت الأميركي لا يستطيع تحمل مواجهة مع اللوبي السابق الذكر. وتوقعنا أنه بعد خطاب القاهرة ستستقر الأمور في الخط المعهود منذ عقود، وسيعود الأميركيون والإسرائيليون للقعود في نفس الطرف من المائدة بشأن قضايا حساسة، وستترك المسألة الفلسطينية مكانها في ترتيب الأولويات الأميركية إلى الملف الإيراني. وهاهي الأمور تتطور في ذلك الاتجاه في سائر الغرب، إلى الحد الذي جعل توني بلير يصرح بأن إيران اليوم هي أخطر مما كانت عليه عراق صدام.

ولم يكن أوباما مخادعا عندما أفضى بما أفضى به في بداية عهده عن القضية الفلسطينية، فإن الرجل يمثل طرازا من الزعامة العازمة على التغيير. ولكنه لا بد أن يتفرس جيدا فيما يسجله محرر الرأي العام الأميركي المخدوم جيدا من قبل قوى سياسية لها أسبقيات أخرى.

وقد دل خطابه أمام الكونغرس على أن المسألة الاقتصادية هي التي تحتل الأولوية، إلى أن يتاح الالتفات إلى الإصلاحات البراقة الكبرى التي وعد بها الرئيس، وكلها تتطلب وجود نِصاب كاف في المؤسسات وفي الشارع، كما أنها تتطلب زمنا.

استنتج الخبراء من سياق الأوضاع الحالية أن الوقت ليس هو وقت معارك مع الخصوم ولا الرأي العام ولا اللوبيات، وأقواها بطبيعة الحال هو اللوبي اليهودي الراسخ القدم. و لم يتغير شيء منذ أن قال سيناتور أميركي منذ نحو من ثلاثين سنة: إن النائب في الكنيست الإسرائيلي أكثر حرية في انتقاد حكومة تل أبيب من صنوه في الكونغرس الأميركي.

لقد خصص الرئيس أوباما ثلثي خطابه للاقتصاد وحينما تطرق إلى المسائل الخارجية أعطى أولوية لإيران، وتعرض لاسترجاع القوات من أفغانستان، وحرص على أن يطمئن شركاءه باقتناعه بالمقاربات المتعددة الأطراف.

وشرح بشفافية خط سيره، حينما قال: لقد وعدت بالتغيير وأعلم أن كثيرا من الأميركيين ليسوا مطمئنين إلى أن هذا التغيير الموعود سيحصل. لكن الديمقراطية في بلد يبلغ تعداده 300 مليون نسمة مسألة معقدة. والتغييرات تثير المشاعر والخلافات. وهذه هي طبيعة الأمور.

وقد اعتدنا على «طبيعة الأمور» هذه. ولهذا نقول فيما يخص أمورنا نحن، إن المسألة الأهم من غيرها، مهما كانت الحالة، هي أنه على الصعيد الفلسطيني بالذات يجب أن يثبت أن الفلسطينيين مجمعون فعلا على أن الأولوية عندهم هي إقامة الدولة. وعلى الصعيد العربي يجب أن يثبت أن البرنامج المصادق عليه في قمة بيروت هو ما يعمل له كل العرب. وهذا وذاك ليس هو الواقع. وهو السبب في أن أوباما، وغيره من قادة العالم، يخفضون رتبة المسألة الفلسطينية في سلم الأولويات، تحت هذا المبرر أو ذاك.

إن مشكلة أوباما كحاكم هي نقصان الثقة ليس فقط في الخطط التي يطرحها، بل في طريقة ممارسة السياسة من لدن الحكومة المركزية. وهناك ما لا يقل عن خمسين في المائة من الأميركيين يرفضون سياسة أوباما. وذلك في مقابل 37 % من المؤيدين. ولا يمكن التكهن بما ستسفر عنه استطلاعات الرأي القادمة. وهذه التمرينات مهمة للغاية في الدول الديمقراطية، حيث الانتخابات توزع المواقع، والاستطلاعات تبين حدود تحمل الرأي العام للفريق الذي يتولى الحكم.

ودلت التطورات الحاصلة في أميركا والعالم على أن الشعوب تمل بسرعة، أكثر من ذي قبل، الخطب والوجوه. فقد انخفض في الانتخابات التي أجريت منذ أسبوعين إلى 5 % نصيب فيكتور يوشينكو الرجل الذي كان في عام 2007 رمزا لثورة اللون البرتقالي في أوكرانيا التي فجرت الأوضاع في الداخل وأثارت مشكلة مع الجار الكبير الروسي. وعبر الأوكرانيون عن رفضهم لحصيلته بنسبة 81 %.

وأعود إلى النازلة الأميركية فأعيد القول: إنه لا الرئيس أوباما كان مخادعا، ولا الناخب الأميركي كان غشيما، بل إن الأمر يتعلق بأن المناهج السياسية لم تحقق استواءها بعد في زمن الثورة الإعلامية. والمؤسسات أصبحت عاجزة عن ملاحقة إيقاع تحرك المجتمعات ومزاجها.

وليس من الطبيعي أن تكون هناك حكومة جديدة كلما أسفرت استطلاعات الرأي عن هبوط شعبية الفريق الحاكم، فجأة وفي وقت وجيز. وما يحدث هو أن يظل كل زعيم في نظام ديمقراطي مطالبا بأن يحافظ على درجة قبول معقولة - ولا أمل في أن تكون درجة قبول مطلقة - عند الجمهور في الاستطلاعات التي تنجز فيما بين الاستحقاقات الانتخابية. وبهذا يظل فن الحكم، بالإضافة إلى التعامل بشكل ناجع مع المتغيرات، قائما على الابتكار اليومي لأسباب الحفاظ على الصورة الإيجابية لدى الجمهور. وبعد ذلك يجب أن تكون مبررة قرارات مثل شن الحرب على العراق. ويتم ذلك بتجنيد الإعلام لبيع تلك القرارات للجمهور. وشيء من هذا يتبلور الآن من خلال التلويح في واشنطن ولندن وباريس بأن الخطر الإيراني بات يتطلب قرارا مستعجلا.

وتبين التجربة أن القائد يكون ملزما بأن يدفع ثمنا كبيرا للحصول على رضا الأغلبية. وأن يحافظ على ذلك الرضا زمنا طويلا. وهاهو نزيل البيت الأبيض يحاول الآن أن يحافظ على رضا واسع من الرأي العام بمغازلته لفكرة اتفاق الحزبين.

ويبدو أن الرجل تحذوه اقتناعات قوية بشأن التغييرات المطلوبة، إلى درجة أنه قال في تقريره عن حالة الأمة: إن تلك التغييرات لا تطرح في أفق انتخابات قادمة بل في أفق جيل قادم. وهذا شيء في منتهى الصعوبة في عالم اليوم المطبوع بالتأثر البالغ بمفعول وسائل الإعلام.

وإلى حد ما أصبح متوقعا من الحكومات ألا يكون في وسعها أن تقدم على قرارات طويلة المدى، بل حتى تلك التي يتطلب تطبيقها ولاية تشريعية من أربع سنوات. وأسوأ ما يمكن أن يقع هو أن تفرض الظروف قرارات لأمد قصير، مع النظر باستمرار إلى استطلاعات الرأي، باعتبار أن الجماهير أصبح صبرها قليلا لا يحتمل انتظار البرامج الطويلة النفس.