خرجا من المولد (بحمّصة) واحدة

TT

عندما غنى عبد الوهاب وقال: (الفن مين يعرفوا إلاّ اللي عايش فيه)، لم يجانبه الصواب، كما أن الذين أكدوا أن (الفنون جنون) لم يكذبوا كثيرا.

ومثلما هو العلم والصناعة، كذلك هو الفن أيضا، سار بخطوات مذهلة وجريئة وتكاد أحيانا تكون غير مفهومة، ولكن هكذا هو الفن، إنه مثلما يقال (كرائحة الورد) تشم ولكنها لا تفسر.

وأكثر ما حصل عليه من القيل والقال و(اللغط) هو الفن (التجريدي)؛ فهو إما أن يحبه البعض، أو يكرهه البعض، ومن النادر أن يكون هناك بعض وسط بينهما.

والذي دعاني لطرق هذا الموضوع الذي تلطخه وتفوح منه رائحة الألوان، هو عندما اصطحبت رفيقا لزيارة معرض لفنانين تجريديين، وحيث إن ذلك الرفيق هو من البعض الكاره، فإنه لم يحتمل الصبر أكثر، وما إن خطونا نحو باب الخروج حتى قال لي: الواقع أنه ليست تلك اللوحات هي التي تستحق أن تعلق على الجدران، ولكن الذين يستحقون أن يعلقوا هم الفنانون.

ودعونا الآن نهدأ قليلا، ونتحدث عن أشهر من حمل لواء الفن التجريدي في القرن العشرين، ألا وهو (بيكاسو)، دعونا (نغتابه) في قبره ونجيب بعض سيرته عمّال على بطّال.

وهو فيه من البخل مقدار لا بأس به، وفيه من الافتتان بالنساء الشيء الكثير، وهو رغم ادعائه بالشيوعية إلاّ أنه كان يتهافت على المال إلى حدٍ كبير، ومن المواقف التي لم ينسها أنه عندما باع لوحة من لوحاته بمبلغ مائة ألف فرنك، فرح بذلك كثيرا، ولكنه اكتأب جدا عندما اتصل به أحدهم بالتليفون ليبشره أن الذي اشترى لوحته قد باعها بمليون، فما كان منه إلاّ أن قال له: وماذا يجدي وماذا ينفعني ذلك، إنني في هذه الحالة أشبه ما أكون بحصان السباق الذي يفوز بجائزة المليون، ولا يحصل الحصان بعد ذلك إلاّ على (العلف) الجيد.

حتى أصدقاؤه لم يكن يبرّهم في هذه الناحية، فقد تغدّى معه صديق له في داره، وأخذ ورقة بيضاء وطلب منه أن يرسم له عليها مثلثا، ففعل، غير أن الصديق ترجاه أن يوقع عليها.

عندها صاح به قائلا: آه الآن عرفت، أنت بحاجة إلى مائة ألف فرنك، وسحب حافظة نقوده وفتحها أمامه قائلا: انظر إنها خاوية.

كما أنه في أحد أيام الصيف كان مستلقيا تحت الشمسية على رمل أحد (البلاجات)، وشاهده رجل مع زوجته وعرفاه، فأحضرا ورقة وعلبة ألوان، وأمرا طفلهما ذا الخمسة أعوام أن يذهب إليه ويطلب منه أن يرسم عليها رسما، فلما وصل الطفل إلى (بيكاسو) وطلب منه ذلك، رحب به وابتسم له وقبله وأجلسه أمامه ثم فتح علبة الألوان، ورسم على كامل صدر الطفل، ثم أداره ورسم كذلك على كامل ظهره ووقع تحت الرسم وجعله ينصرف وبيده الورقة بيضاء مثلما أتى بها، وأسقط بيد الرجل وزوجته، فمن المستحيل أن يظل الطفل دون استحمام، والمشكلة أنه إن تحمم سوف يزول الرسم والألوان، فما كان منهما إلا أن يلتقطا صورة لطفلهما، ويقال إنهما باعا الصورة بعشرة آلاف فرنك - فهما بذلك على الأقل قد خرجا من المولد (بحمّصة) واحدة، (فريحة أبو زيد ولا عدمه).

وهو يحكي بذكرياته ويقول: عندما كنت صغيرا كانت والدتي تقول لي: إذا دخلت العسكرية ستصبح جنرالا، وإذا دخلت الكهنوت ستصبح بابا، ولكنني أردت أن أكون رساما، وأصبحت بيكاسو.

فأيهم الآن من (تتحدث عنه الركبان) أولئك الجنرالات وذلك البابا، أم (بيكاسو)؟!

[email protected]