رجل في سبيله إلى رغيف العائلة

TT

نعتاد في المدن بعض الوجوه ونألفها جزءا من حياتنا وعائلتنا اليومية. وتصبح بعض الأرصفة امتدادا لردهة البيت أو شرفته. وعندما نخرج كل يوم إلى سبلنا نتفقد تلك الوجوه أو نشعر بغيابها. ولا يقوم بيننا وبين أصحابها حوار ولا تعارف ولا شيء، لكن الصمت نفسه يتحول إلى حوار وألفة وود متفق عليه دون إعلان.

مع الزمن تصبح المدينة هي داخلك لا مجرد إطارك. هي حنينك وهي إيابك وهي مكان الأحلام التي ترفرف فوق ليلك ثم تذوب. تعلق قسطنطين كفافي بالإسكندرية وتخدر بها الخدر الجميل، النسائمي، الندي. وصارت أم شعره والشجرة التي تساقط عليه النغم والإيقاع. واسمحوا لي أن أترجم:

لن تجد وطنا جديدا، لن تجد شاطئا آخر

هذه المدينة سوف أبدا تلاحقك. سوف تمشي

الشوارع نفسها، وتشيخ في الحارات نفسها،

وتشيب في هذه البيوت أيها.

سوف تنتهي دائما إلى هذه المدينة.

لا تأمل بأشياء في أي مكان آخر

لا سفينة لك ولا طريق

وفيما كنت تبدد حياتك هنا، في هذه الزاوية الصغيرة

كنت تغيبها في كل مكان آخر من العالم.

كتب كفافي هذه القصيدة أواخر القرن التاسع عشر. وفي ديوانه «المدينة» تجد الناس والأرصفة والبحر تتحرك في شعره كمن يكتب يوميات شخصية حميمة «اليوم، وأنا أسير في شارع «المدى الجديد»، لمحت ظهر رجل يسير أمامي. كان ظهرا عاديا لرجل عادي، سترة عادية على كتفي هذا السائر العابر. كان يحمل حقيبة صغيرة تحت إبطه الأيسر، فيما تعكز باليمنى على مظلة راح يدق الرصيف برأسها، على إيقاع متناسق مع وقع خطواته. شعرت بالحنان الذي تبعثه التجمعات البشرية، ببداهة هذا الرجل الذي يذهب إلى العمل كل يوم من أجل رغيف عائلته، بتواضع بيته وهنائه، بالمسرات والأفراح الحزينة التي تتألف منها حياته بالتأكيد، ببراءة الحياة التي يحياها دون أن يطرح الأسئلة، بمدى تلقائية ذلك المعطف الذي يرتديه».

جاء كفافي إلى الإسكندرية مع أمه وهو في الخامسة من العمر. وكانت المدينة في عزها كتجمع دولي متعدد، لا يزال يحمل آثار الإسكندر وظلال كليوباترة. وعندما كبر لم يعد يميز ما إذا كانت المدينة بيته أم السور الذي يطبق حوله: «لقد أصبحت الآن معتادا على الإسكندرية. والأرجح أنني لو كنت ثريا سوف أبقى هنا. سوف أبقى هنا لأنها مثل مسقط رأسي، لأنها مسرح ذكريات عمري. لكن آه، كم يحتاج رجل مثلي إلى مدينة أكبر، إلى شيء مثل لندن».