دبلوماسية البكاء بين يدي الحبيب

TT

تتطلع الدول الصغيرة نحو الدول الكبيرة لتساعدها في حل أزماتها، ولكننا بتنا نشهد الآن الدول الكبيرة وهي تسعى نحو الدول الصغيرة طلبا للمساعدة. فعندما كشرت الولايات المتحدة عن أنيابها، وأصدرت أوامر تحريك أشرس قوة عسكرية عرفها التاريخ، من أجل محاربة تنظيم بدا قويا ووهميا في آن واحد، هو تنظيم القاعدة، كان التقدير أن الحملة لن تستغرق أكثر من أيام، وبعدها تتغير صورة العالم. وهكذا بدأت الحرب في أفغانستان ضد تنظيم طالبان لتعلن بداية العهد الأميركي العالمي. ولكن السنوات مرت والجيش الأميركي يضرب ويدمر... ويتراجع. وفي المشهد الأخير من التراجع الأميركي، انعقد مؤتمر حضره الكبار، وخرج بقرارات «مالية» من أجل شراء حركة طالبان، وما هي إلا أيام حتى تبين لأميركا أن قرارات «الشراء» لا تقل سذاجة عن قرارات «الانتصار»، فأرسلت رجلها «كرزاي» إلى السعودية لكي يستجدي مليكها توجيه رسالة إلى المتصارعين في أفغانستان، وقائلا إن «رسالة من الملك عبد الله سيكون لها أثر عميق على طالبان والحركات الإسلامية الأخرى». وهكذا أصبح الوضع الدولي يؤمن بأن «الرسائل» تستطيع معالجة شأن الحروب أكثر من جحافل الطائرات والدبابات والمدافع.

إن ما يهمنا من هذا، هو الاعتراف الأميركي بالفشل، والسعي الأميركي للاستعانة بالدول الصغيرة لحل مشكلات الدول الكبيرة.

ولكن هذا «التواضع» الأميركي لا يخلو من دجل، فهو إذ يبدو تواضعا في أفغانستان، يصبح دجلا وخداعا في إسرائيل. فهناك، حيث الكلمة العليا لأميركا، تتواضع أميركا وتقول إنها أخطأت، وإنها لم تفهم تعقيدات القضية الفلسطينية، ولم تفهم تعقيدات الوضع الإسرائيلي، ولذلك فهي لن تضغط على إسرائيل لتوقف نهب الأرض الفلسطينية وتذهب إلى طاولة المفاوضات، بل ستضغط على الفلسطينيين ليقبلوا نهب أرضهم ويذهبوا إلى طاولة المفاوضات. وكل ذلك تحت رداء فضفاض يحمل اسم «الراعي الأميركي النزيه».

وتصل النزاهة الأميركية هذه إلى أوروبا، ويتولى رجل إيطالي من نوع برلسكوني رئيس الوزراء، أن يقدم نموذجا لهذه النزاهة في وجه العرب. يجلس برلسكوني في الكنيست الإسرائيلي ويبكي. ويساعده في البكاء الزعيم الإسرائيلي الذي يتعهد بترحيل الفلسطينيين، وتفشيل أي حل سياسي مع الفلسطينيين. وهكذا يقوم بنيامين نتنياهو بالتحدث أمام الكنيست الإسرائيلي، وبحضور برلسكوني الذي طالما حاربه اليهود في إيطاليا وأوروبا بسبب عنصريته، ويروي أمام الجميع قصة دونكيشوتية، عن كيف أنقذت والدة برلسكوني فتاة يهودية أثناء الحرب العالمية الثانية.

البكاء في الكنيست بين يدي الحبيب كان اعتذارا من برلسكوني ليهود إسرائيل. والتبرع من قبل نتنياهو لتبييض صفحته، كان دعما من إسرائيل لبرلسكوني لعله يفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

ولكن.. بينما كانت حفلة البكاء تدور في الكنيست، كانت حفلة من نوع آخر تدور في أروقة محاكم إيطاليا. هناك.. كان شاهد رئيسي في محاكمة للمافيا، يقف ويقول: إن السيناتور فلان الفلاني المقرب من برلسكوني، على صلة مباشرة بزعيم زعماء المافيا السابق فلان الفلاني. وهذا السيناتور المقرب من أكبر زعماء المافيا، هو شريك سياسي لبرلسكوني. ولا ندري إن كان هذا الخبر يستدعي الحزن والبكاء أم لا.

ومن المعروف أن البكاء له أضرار وفوائد، ومن فوائده أنه يمنعك أحيانا من رؤية أشياء لا تود رؤيتها. وهذا ما حدث مع برلسكوني أيضا. فهو، كمسيحي متدين، كان لا بد له أن ينتقل من القدس إلى بيت لحم، ليزور هناك كنيسة المسيح، فجلس في السيارة التي سارت بحذاء (جدار الفصل العنصري) الممتد على طول الطريق بعلو ثمانية أمتار، وحين سأله صحافي إيطالي عن رأيه بذلك الجدار، قال: لم أره، كنت مشغولا بالأوراق بين يدي، أعتذر لك. وهكذا فإن البكاء ساعد برلسكوني على عدم الرؤية، وتخلص بذلك من حرج أسئلة الصحافيين، وعبر بذلك بوضوح دقيق عن غفوة الضمير الأوروبي الذي لا يريد أن يرى، ولا يستطيع أن يرى.

وتحدث كل هذه القصص الطريفة والمؤثرة والإنسانية، بينما تتكاثف فوق المنطقة غيوم الحرب. غيوم حرب بين إسرائيل ولبنان، أو بين إسرائيل وسورية، أو بين إسرائيل وغزة. وهناك غيوم حرب أخرى تتراكم في المنطقة، حرب بالتراشق عن بعد بين إسرائيل وإيران. والصفة الجامعة بين هذه الحروب المختلفة كلها، أنها حروب تتم (بالنسبة لأميركا) بين الصغار، وبين الدول الصغيرة بالتحديد. وهنا يختلف القانون الأميركي. إذ بينما تسعى أميركا إلى الدول الصغيرة لعلها تساعدها في حل مشكلات حروب الدول الكبيرة، تلجأ هنا إلى تحريض الصغار بعضهم ضد بعض، وتلجأ إلى تأجيج أتون الخلافات بينهم، لأنها ترى في احتمالات الحرب، أو في الحرب نفسها إذا وقعت، مساعدة لها في فرض ما تريد على دول المنطقة. وبهذا تلجأ إلى حروب الدول الصغيرة نفسها لتحقيق أهدافها.

وتطبيقا لهذا، تبادر إسرائيل إلى تهديد لبنان، كما حدث في الأسبوع الماضي، حيث حلقت طائراتها بكثافة فوق مدن وقرى الجنوب اللبناني. وتطبيقا لهذا تبادر إسرائيل إلى تهديد سورية، وتضطر سورية إلى الرد على التهديد بتهديد مماثل، وتقول على لسان وزير خارجيتها، وليد المعلم، وللمرة الأولى، إن أي عدوان على سورية سيتحول إلى حرب شاملة. وتقول أيضا للمرة الأولى، إن الحرب إذا انفجرت ستنفجر هذه المرة داخل المدن الإسرائيلية. وحين ينتشي رئيس الأركان الإسرائيلي (غابي أشكنازي) فيتحدث عن الجيش الإسرائيلي كواحد من أقوى جيوش العالم، ترد سورية على هذه الغطرسة قائلة: إن إسرائيل تدفع المنطقة باتجاه الحرب. وترد سورية على هذه الغطرسة قائلة لإسرائيل أيضا: كفى لعب دور «الزعران» في المنطقة.

إن جو الحرب هذا بين الدول الصغيرة، تشجعه الدولة الكبيرة أميركا. والسعي نحو وساطة الدول الصغيرة، تشجعه الدولة الكبيرة أميركا. وهكذا تبدو أميركا، بعد فشل حربها في أفغانستان وباكستان والعراق، وبعد انفجار أزمتها الاقتصادية الكبرى، وعلى مستوى العالم، دولة جبارة ولكنها مترنحة. دولة قادرة على التدمير ولكنها ليست قادرة على الانتصار. وتصبح الولايات المتحدة بهذا الوضع، وهي المسؤولة عن الاستقرار في العالم، سببا أساسيا من أسباب انفجار الحروب.

إن أميركا حين تسعى وراء مساعدة يقدمها الآخرون، لا بد أن تبذل جهدا كافيا لتقديم كل مساعدة يحتاجها الآخرون. إذ ليس من مصلحة العرب أن يسعوا إلى مساعدة أميركا في أفغانستان، بينما هي ترفض أن تساعد العرب في وجه الغطرسة الإسرائيلية. ولا شك أن أميركا تعرف أكثر من غيرها أن ثمة قناعة عربية بأن إسرائيل لا تفعل شيئا، وبخاصة في موضوع الحرب، إلا بعد أن تتلقى الضوء الأخضر من أميركا.

ويشعر العرب في هذه المرحلة بالذات، أن دعم أميركا لإسرائيل بدأ يتجاوز ما كان سائدا في السابق. في السابق كان الدعم لإسرائيل دعما لوجودها وهيمنتها، وهو الآن ينتقل، في غزة وعبر حصار غزة، إلى موقف تدميري وغير إنساني للعرب وللفلسطينيين، وهو موقف من شأنه أن يبعد العرب، دولا وشعوبا، عن أميركا.