لماذا يكرهوننا؟

TT

جاء تقرير بان كي مون صدمة لكل المهتمين بقضايا حقوق الإنسان والعدالة. ففي تقريره الذي رفعه في 5/2/2010، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الأمين العام إنه «لا يمكن تحديد ما إذا كان الجانبان طبقا القرار 64/10»، الذي أصدرته الجمعية العامة، مشيرا إلى أنه دعا الجانبين مرارا «إلى القيام بتحقيقات ذات مصداقية حول كيفية خوض النزاع في غزة».

الأمين العام للأمم المتحدة لا يعيش على القمر، بالطبع، كما أنه زار غزة، بعكس المسؤولين الأميركيين، ورأى بأم عينيه مئات المنازل والمدارس والمشافي، وبعضها تابع للأمم المتحدة نفسها، التي تم قصفها بصواريخ الطائرات الإسرائيلية وبقنابلها الفوسفورية.

وكانت كل شاشات التلفزة في العالم قد عرضت جثث الأطفال والنساء والمدنيين العزل الذين قتلتهم صواريخ إسرائيل. كما رأى بأم عينيه الفوسفور الأبيض يتعالى، وليس عليه للتأكد من الصدقية الفلسطينية، سوى أن يرى المعاقين في غزة، الذين فقدوا أطرافهم وأعينهم وأفرادا من أسرهم. إن وضع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في ميزان واحد فيه قدر كبير من الإجحاف، وتجاهل مأساة الفلسطينيين المفروضة عليهم منذ أكثر من ستين عاما بسبب الاحتلال والحصار الإسرائيلي فيه ظلم وعار يلاحق مرتكبيها ومتجاهليها على حد سواء. مع أن كل نفس إنسانية مقدسة لا يجوز حسابها بالأرقام، ولكن قد يكون من المفيد تذكير الساسة الغربيين الذين يتساءلون ببلاهة «لماذا يكرهوننا؟» أن غزة قد تم تدميرها قبل عام، ليس بزلزال كما في هايتي، ولكن بحرب شنتها إسرائيل، حيث استشهد آنذاك أكثر من ألف وأربعمائة مدني فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، كما جرح أكثر من ثمانية آلاف مدني آخر، جروح معظمهم بليغة، كما دمرت البنية التحتية، وتم إغراق الأراضي الزراعية بمياه المجاري، ومارست إسرائيل، وما زالت، العقوبات الجماعية والحصار ضد مليون ونصف المليون مدني فلسطيني في القطاع، حيث استشهد بسبب الحصار أكثر من ثلاثمائة مدني آخر، ومع ذلك فإن كل الساسة الغربيين يتجاهلون هذه المأساة المروعة، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة الذي من المفترض أنه يمثل الضمير العالمي، فهو يساوي بين الجنرالات الإسرائيليين وضحاياهم من المدنيين الفلسطينيين العزل. لقد تجاهلوا شهادات الجنود الإسرائيليين أنفسهم الذين أكدوا أن الأوامر أعطيت لهم بعدم التفكير في حياة المدنيين الفلسطينيين، وعدم إقامة اعتبار لها. وها هي منظمة «كسر الصمت» الإسرائيلية تكشف عن فصل جديد من فصول الممارسات في الضفة والقطاع، فلماذا التستر على جرائم هؤلاء الجنرالات، ودمج القاتل بالضحية من قبل ساسة وإعلاميين يكررون السؤال «لماذا يكرهوننا؟». لم يدمر الزلزال غزة.. ولم يدمر الإعصار غزة.. ولم يشهد ساحل غزة تسونامي.. ولم تكن طائرات حماس هي التي قصفت غزة بالقنابل الفوسفورية.. فمن فعل ذلك؟ الكل صامت، مع أن القاضي اليهودي غولدستون نطق بالحقيقة.

تقرير بان كي مون، الذي يكشف عجز المجتمع الدولي عن إدانة مجرمي الحرب، إذا لم يكونوا أفارقة ومسلمين، جاء بعد أيام عدة من إلقاء الرئيس أوباما خطاب حالة الاتحاد، حيث تجاهل ذكر الشرق الأوسط نهائيا، وصدرت تصريحات بعد ذلك عن مسؤولين في الإدارة الأميركية يتحدثون فيها عن سوء تقديرهم لحجم المشكلة في الشرق الأوسط، وصعوبة حلها، والتركيز بدلا من ذلك على إيجاد حلول لمشكلة إيران النووية، والتركيز على الملفات الداخلية والاقتصادية في الولايات المتحدة. ولا يسعنا هنا، إلا أن نستذكر ما قالته الفيلسوفة الأميركية من أصل روسي إيان راند «يمكننا أن نغض الطرف عن الحقيقة، لكن لا يمكننا أن نتجاهل تداعياتها».

والحقيقة هي أن مئات الملايين من المسلمين المنتشرين في كل القارات يراقبون منذ عقود سلوك القادة الغربيين تجاه المآسي التي تسببها سياساتهم، خاصة دعم الاحتلال، والاستيطان، والحصار، والحروب الإسرائيلية، ويرون دوما أن المؤسسات الدولية التي يهيمن عليها الغربيون لا تكترث لقتل أشقائهم وتهجيرهم وحرمانهم من الحرية، ومن حقوق الإنسان، بل تفرض أقسى ظروف العيش عليهم، وإذا ما تحرك أحد لكي تأخذ العدالة مجراها، فإن الفيتو الأميركي في انتظار القرار، مهما كانت مسوغاته وأسبابه وموجباته الإنسانية، وبعد كل هذا وذاك، تثار الدهشة من قبل الساسة الغربيين أنفسهم، فيسألون «لماذا يكرهوننا؟». وحتى أخبار ما يجري للعرب والمسلمين من ظلم، وقتل، وسجن، وتجويع، وتعذيب، وتنكيل، أصبحت ممنوعة من الوصول للضمير العالمي. وها هي الولايات المتحدة، البلد الذي كان يتباهى بحرية الصحافة، تلغي قنوات فضائية إخبارية بالجملة، وتمنعها من الظهور على الأقمار الصناعية، إذا ما حاولت كشف عمق المأساة الإنسانية التي تحل بشعب تحت الاحتلال، ويتمتع محتلوه بحصانة دولية لا سابق لها لارتكاب جرائم الحرب، بحيث لا يتجرأ أحد أن يطالب بردعهم ومعاقبتهم، وكأن حياة من يضطهدونهم من العرب والمسلمين، لا تساوي في المعيار الغربي حياة بقية البشر. وإذا لم يسمح برؤية الألم والكوارث التي يتسبب بها هؤلاء، فمن المتوقع ألا نجد ردود الفعل الطبيعية لها. فإذا مر رئيس وزراء دولة أوروبية قرب الجدار العنصري ولم يلحظه، لأنه مشغول بقراءة أوراقه داخل السيارة، لكنه يذرف دمعة حزنا على فتاة يهودية أنقذتها والدته، ولا يذرف دمعة على معاناة ملايين الفلسطينيين المستمرة منذ أكثر من ستين عاما.. مثل هذا التجاهل لمعاناة البشر من الاحتلال، والظلم، والقمع الذي ينجم عنه، يزيد النقمة المعتملة في الصدور على هذه الهوة الشاسعة بين الواقع المؤلم، وازدواجية المعايير لدى القوى التي تمسك دوليا بزمام الأمور إعلاميا وسياسيا. ففي الوقت الذي انتشر فيه الإرهاب وتعاظم أضعاف ما كان عليه قبل الحرب على العراق، التي تم شنها باسم مكافحة الإرهاب، نلاحظ أن إجراءات وأساليب مكافحة الإرهاب ما زالت تنزلق من فشل إلى فشل أعظم، دون أدنى محاولة لملامسة أسباب الغضب والنقمة التي يشعر بها المقهورون، والمظلومون، والواقعون تحت سياط الاحتلال. فها هي محاكمة توني بلير تظهر للملأ هشاشة المنطق الذي يحول حياة ملايين البشر إلى مأساة يومية، ولكن إذا كان توني بلير مثله مثل رئيس الوزراء الذي لم يلحظ جدار الفصل العنصري الذي يدمر حياة الفلسطينيين، لأنه لا يعنيه من أمرهم شيئا، إذا كان بلير لا يستطيع أن يرى الملايين من أيتام وأرامل ومعاقي الحرب على العراق، فمن أين له أن يندم على مساندته تلك الحرب الكارثية على الشعب العراقي برمته؟ مثل هذه المحاكمات لا تقدم ولا تؤخر، ولم تعد حتى قادرة على إضفاء وجه حسن للديمقراطية الغربية التي ظهرت على حقيقتها في مواقفها من أحداث الشرق الأوسط. لا بل إن هذه الإجراءات لاحتواء الإرهاب ومكافحته، تأخذ منحى استخباريا غير مسبوق، بدلا من أن تفهم العبر والدلائل بشكل مختلف تماما.

إن العنف هو نتيجة استخدام القوة الظالمة بدلا من محاولة تحقيق العدالة في فلسطين، وسواء أفهم ساسة العالم الغربي ذلك، أم لم يفهموه، فإن فلسطين، مهد السيد المسيح عليه السلام، هي الجرح الدامي الذي لن يندمل ما لم تتخذ الولايات المتحدة، وأوروبا، والهيئات الدولية موقفا عادلا يعيد للفلسطينيين حريتهم وحقوقهم ومقدساتهم وكرامتهم، لأن هذه الدول والهيئات بتمويلها وتسليحها إسرائيل، مسؤولة عن حرمان الفلسطينيين من الحرية، ومن حقوق الإنسان، ولأنها تمنح الحصانة لمجرمي الحرب الإسرائيليين فإنها مشاركة في معاناة الفلسطينيين من حروب إسرائيل وحصارها.

أما أن تتجاهل الإدارة الأميركية، ومعها أوروبا، وكذلك أعلى هيئة دولية جرائم حرب بشعة موثقة، ارتكبتها قوات الاحتلال، فقط لأن مجرمي الحرب إسرائيليون، وتغض الطرف عن أقسى أنواع المعاناة التي تفرض على شعب بأكمله، فقط لأنهم مسلمون، فسيبقى هناك في العالم دائما يهود ومسيحيون ومسلمون أميركيون وعرب وأوروبيون وحتى إسرائيليون، ينتصرون للمظلوم على الظالمين. ولن يجدي اغتيال فرق الموت الإسرائيلية كل من يرفع صوته في وجه الظلم، لأن الانتصار في النتيجة للحق والعدالة والمظلومين، كما لن يجدي تصنيف حركات التحرر ووصمها بالإرهاب، ومحاولة منع تسلحها، ومنع الموارد عنها، لأن الكفاح من أجل الحرية ينبت أصواتا تنتصر للحق الذي قضوا من أجله.

ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح من الغرب، والذي بدأه جورج بوش «لماذا يكرهوننا؟» غير دقيق، لأن هذه الشعوب لا تعرف الكراهية، فهي ولدت على أرض استقبلت الديانات السماوية الثلاث، ولكن السؤال هو «لماذا الغضب، ولماذا النقمة؟» والجواب موجود في تجاهل قادة العالم لمعاناة الفلسطينيين من القمع الإسرائيلي، وهو موجود في عدم محاسبة مجرمي الحرب عندما يكونون غربيين، وهو موجود في الفيتو الأميركي الذي يمنع تحقيق العدالة، وهو موجود في تسليح وتمويل المستوطنين، وهو موجود في تهويد القدس. لكننا نحن أيضا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا يكرهوننا إلى كل هذا الحد؟ وللإجابة علينا أن نعترف بضعفنا الناجم عن الاستقواء بالعدو على الشقيق، ومهادنة العدو عندما يعتدي على الشقيق. فإن تجاهلنا هذا الواقع، فلن يكون من الممكن تجاهل تداعياته على الجميع.