الشرق الأوسط.. بين حرب السلام وسلام الحرب

TT

«حتى قبل أن تبدأ التفكير

في السياسة، عليك بتناسي وجود حرب بين الأخيار والأشرار»

(والتر ليبمان)

من يفهم في السياسة ويعرف معدن أهلها يدرك أن التهديد الكلامي والتهديد المضاد بالحرب يهدف إلى أمر من اثنين: إما تهيئة الشارع وتعبئته لكي يكون متأهبا لتلك الحرب، وإما خلق جو ضاغط من التوتر والانسداد السياسي يستدعي جهود الوسطاء استدعاء.. فيحفظ لهذا الفريق أو ذاك ماء الوجه.

ما سمعناه خلال الأيام القليلة الماضية من «كلام كبير» عن إسقاط أنظمة وإنهاء حكم عائلات ومغامرات تنتهي بالندم، لم يصدر عن جنرالات طحنتهم الحروب، بل عن ساسة. منهم ساسة عنصريون استفادوا من مناخ «العسكرة المؤسساتية» للمجتمع الإسرائيلي المتجه أبدا نحو التطرف والمزيد منه. ومنهم - في الجهة المقابلة - ساسة موظفون يشكلون الوجه المدني لحكم أمني تجمع شعاراته السياسية في آن واحد «الممانعة» و«السلام خيار استراتيجي»!

الأمر لا يحتاج إلى عبقري لإدراك أن المتحدثين، أو المهددين، باسم الطرفين المتقابلين على جبهة التصعيد الحربي الكلامي، ليسوا في نهاية المطاف أصحاب القرار النهائي في إصدار أوامر القتال. والأهم من هذا، أنه حتى الذين يحتلون مواقع أصحاب القرار لا يستطيعون حقا تجاهل «حلفائهم» الاستراتيجيين الدوليين والإقليميين.

بكلام مباشر، فإن أفيغدور ليبرمان قد يعرض عضلاته وهو «الفتوّة» الروسي المحترف سابقا، وقد يحرج بنيامين نتنياهو - إن كان هناك ما يمكن أن يحرج نتنياهو - لكنه حتما ليس الشخص الذي سيتخذ قرار الحرب والسلم داخل الحكومة الإسرائيلية.

والسيد وليد المعلم قد يكون سياسيا حصيفا، ودبلوماسيا لبقا - اللهم إلا في الشأن اللبناني - والسيد محمد ناجي عطري - بلا شك - إداري ناجح.. بجانب كونه مهندسا متمرّسا من خريجي جامعات هولندا، غير أن القاصي والداني على بيّنة بأن القرار الفعلي بعيد عن متناولهما، لأنه موجود في مكان آخر.

ثم إنه على امتداد السنين استوعب عقلاء الشرق الأوسط طبيعة العلاقة العضوية بين إسرائيل والولايات المتحدة. وخير الشواهد على ذلك محطات حرب يونيو (حزيران) 1967، وحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وحرب تحرير الكويت 1990-1991. وعلى امتداد السنين لاحظ الراصد المدقق تبلور العلاقة الاستراتيجية بين الحكمين السوري والإيراني منذ ثورة الإمام الخميني.

وبناء عليه، وبالنظر إلى نوعية الأسلحة المتطورة التي يمكن أن تستخدم في أي حرب إقليمية قد تخوضها إسرائيل، وتداعياتها السياسية المحتملة والواسعة النطاق، يستحيل تصور اندلاع هذه الحرب من دون «ضوء أخضر» من واشنطن، ولاسيما، في وجود عشرات الألوف من العسكريين الأميركيين في العراق وأماكن أخرى من الخليج.

وفي المقابل، لا خيار أمام دمشق إلا بمواصلة سياسة الرسائل المتناقضة - والمقبولة دوليا - لأن منطق «المساومة السياسية» في ظل العجز العسكري، يقضي من جهة بالمحافظة على ورقة الاستقواء بإيران، ومن جهة ثانية، بلعب دور قناة التفاوض المواتية للغرب مع القيادة الإيرانية.

هنا، يتضح أن كلا من الجانبين الإسرائيلي والسوري يفهم ما يريده منه الجانب الآخر، وبصورة تكفل استمرار «سيناريو» التعايش الاستنسابي في المنطقة، بينما يغرم اللاعبون الباقون الثمن.

غير أن الخطورة تكمن في خروج بعض الجهات على النص، وإرباكها المعادلة عن قصد أو من دون قصد. وإذا كان ثمة من يستبعد أن ترتكب القيادة الإيرانية خطأ من هذا النوع، خاصة أنها أجادت حتى الآن رسم استراتيجيتها النووية وتنفيذها خطوة بخطوة، فلا شيء يضمن التبعات الخطرة إذا ما واصلت «وجبات» إعدام المعارضين في الشارع الإيراني.

أيضا ربما يتعرض موقف الرئيس الأميركي باراك أوباما لمزيد من النكسات داخليا، التي قد تفقده القدرة على الاحتفاظ بزمام المبادرة.

وأيضا وأيضا، قد يحدث شيء ما في لبنان.

وفي موضوع لبنان، بالذات، كان لافتا ما نسبه الكاتب والصحافي الأميركي سيمور هيرش في العدد الأخير من مجلة «النيويوركر» إلى الرئيس السوري بشار الأسد.

هيرش، بالمناسبة، على علاقة طيبة بمستشاري الرئيس الأسد اللبنانيين لشؤون العلاقات العامة، وهم الذين نسقوا له لقاءاته المعروفة بقيادات حزب الله قبل فترة. ولذا تكتسب أهمية خاصة جدا العبارة التي نقلها هيرش عن الأسد، ونشرت قبل أيام معدودات من ذكرى اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط).

فقد قال الرئيس الأسد حرفيا: «لا يحتاج اندلاع الحرب الأهلية في لبنان إلا لبضعة أيام. إنها لا تحتاج لأسابيع أو لشهور.. قد تندلع هكذا. وليس بالمقدور الاطمئنان إلى أي شيء في لبنان ما لم يغيروا (؟) النظام».

الفكرة واضحة. فعلى الرغم من كل الكلام الدبلوماسي الهادئ، فلا تزال دمشق مصرّة على أن لا مستقبل للعلاقات بين سورية ولبنان إلا إذا تغير النظام في لبنان. وإذا كان لنا مراجعة بعض أدبيات «منظري» العلاقات السورية اللبنانية في دمشق، نقرأ أن «التدخل السوري في لبنان شأن داخلي سوري».

من ناحية ثانية، كان مهما جدا كلام السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله في أربعينية الإمام الحسين (ر) عندما تطرق إلى حادثة الشيخ المجذوب، الذي «فبرك» بنفسه لعبة خطفه.

فالأمين العام، رغم إقراره بوجود خلافات سياسية مع تيار المستقبل، برأه من تهمة التآمر من أجل افتعال الفتنة التي طالما وجهها إليه مناصرو الحزب.. وكذلك بعض مسؤوليه. وعندما أثنى على تيار المستقبل لعمله لوأد الفتنة، فإنه أثنى أيضا على قوى الأمن الداخلي التي كانت الجماعات المحسوبة على الحزب، والمنضوية تحت لوائه من القوى والطوائف الأخرى، تغمز من قناة ولائها.

إذن، لا مشروع فتنة إسلامية إسلامية في هذا الجزء من الشارع السياسي اللبناني. وسيكون مفيدا، وفق هذه المعطيات والقناعات، الاستفسار عن هوية من يسعى حقا إلى زرع الفتنة وإشعال شرارة الحرب الأهلية، وفق ميزان القوى الحالي في لبنان.

هذا أمر غاية في الأهمية. ولا بد - كخطوة أولى - من «إراحة» الساحة اللبنانية المتاخمة جغرافيا لإسرائيل، حيث تتقاطع معظم خطوط الزلازل السياسية الإقليمية.. بدءا من «الخط الأزرق» وانتهاء بطهران.

يجب أن يكون هذا في صميم تفكير كل الحريصين على إجهاض مخططات إسرائيل «الليكود» لطي صفحة فلسطين والفلسطينيين، ولبنان واللبنانيين، والأردن والأردنيين إلى الأبد.